يا تونس الخضراء- نزار قباني
ياتونس الخضراء جئتك عاشقا *** وعلى جبيني وردة وكتابُ
إني الدمشقي الذي احترف الهوى*** فاخضوضرت بغنائه الأعشابُ
أنا فوق أجفان النساء مكسر*** قطعا فعمري الموج والأخشابُ
هل دولة الحب التي أسستها*** سقطت علي وسدّت الأبوابُ
من أين أدخل في القصيدة يا ترى*** وحدائق الشعر الجميل خرابُ
لم يبق في دار البلابل بلبل*** لا البحتري هنا ولا زريابُ
قمر دمشقي يسافر في دمي*** وبلابل وسنابل وقبابُ
أمشي على ورق الخريطة خائفا*** فعلى الخريطة كلنا أغرابُ
يا تونس الخضراء كأسي علقم *** أعلى الهزيمة تشرب الأنخابُ
لا تعذليني إن كشفت مواجعي *** وجه الحقيقة ما عليه نقابُ
إن الجنون وراء نصف قصائدي *** أوليس في بعض الجنون صوابُ؟
فإذا صرخت بوجه من أحببتهم *** فلكي يعيش الحب والأحبابُ
شرح القصيدة
القصيدة ألقاها نزار قباني في المهرجان الذي أقامته الأمانة العامة لجامعة الدول في تونس، بتاريخ 22 / 3 / 1980 مـ بمناسبة مرور خمسة وثلاثين عاما على تأسيس جامعة الدول العربية، وهي من أجمل القصائد التي كتبها نزار، فهي تئن بالحسرة وتأنيب الضمير، وتجسد الواقع المر للأمة العربية الممزقة .
1.يا تونس الخضراء جئتك عاشقا وعلى جبيني وردة وكتاب
بدأ الشّاعر قصيدة بداية غزلية على نهج الشعراء القدماء ( مقدمة طلليّة)
فهو ينادي تونس التي امتازت بجمال طبيعتها واخضرارها ، فهي معشوقته التي جاءها وقلبه مفعم بعشقها يحمل الورود ( كناية عن المحبّة والسّلام) والكتب (كناية عن الشّعر والمدح) على جبينه.
استخدم الشاعر أسلوب النداء، والغرض من النّداء هو التحبّب والتقّرّب من المحبوبة ( تونس )
واستخدم أسلوب التشخيص: فهو يخاطب تونس كأنها إنسان يسمع ويحاور ليدلّل على حبّه لها وعلاقته الطيبة بها.
2 - .إني الدمشقي الذي احترف الهوى فاخضوضرت بغنائه الأعشاب
يعلن الشّاعر انتماءه الوطنيّ لدمشق واصفا نفسه بأنّه محبّ ( وقد اشتهر نزار قباني بقصائد الغزل ) محترف يتقن فنّ الشّعر حتّى أنّ الأشجار قد دبّت فيها الحياة فازدادت خضرة بسبب رونق شعره الجميل العذب.
نلاحظ أنّ الشّاعر يفتخر أيضا بانتمائه لوطنه دمشق حين يتحدّث عن نفسه ، فهو ينسب إليه دمشق ( إنّي الدّمشقيّ )
استخدم الشّاعر أسلوب التّوكيد باستخدامه الحرف المشبّه بالفعل: إنّ ، حيث اراد أن يؤكد هويته الدمشقيّة.
3 - .أنا فوق أجفان النساء مكسّر قطعا فعمري الموج والأخشاب
يصوّر الشّاعر حالته المضطربة بسبب الظروف العربيّة وحالة التفكّك والتفرقة، فهو في عيون النّساء مكسّر إلى قطع بسبب الإنهاك الذي يصيب حالته النفسيّة، وشبّه حياته بأخشاب مكسّرة تلاطمها أمواج البحر .
4 - هل دولة الحب التي أسستها سقطت علي وسددت الأبواب ؟
يبدو الشّاعر يائسا حزينا غارقا في السلبية في البيت الرّابع والخامس والسّادس :
يستاء ل الشّاعر قلقا فهو يشعر بأنّ أشعاره في الحبّ تحطمت على رأسه، فهو لا يستطيع الخروج منها إلى غيرها من أنواع الشعر.
يستخدم الشّاعر أسلوب الاستفهام لغرض : التعجّب ، والحيرة
5 - من أين أدخل في القصيدة يا ترى وحدائق الشعر الجميل خراب ؟
ثم يتساءل حائرا:
كيف لي أن أكتب شعرا بعدما أصبحت حدائق الشعر الجميل خراب، وهو يعبّر بذلك عن العجز الذي أصابه، فموهبته الشّعرية تخونه.
إنّ الذي يريد نظم شعر لا بدّ أن يجد له مناخا مريحا لنظم الشّعر، وهذا ما لا يجده الشّاعر
يستخدم الشّاعر أسلوب الاستفهام لغرض بيان تعجّبه وحيرته
نرى أنّ الشّاعر في الأبيات السّابقة أعلاه قد استخدم ضمير المتكلم وذلك من أجل البوح عن أعماق نفسه وما يختلجها من حزن عميق على ما وصلت إليه الأمّة العربيّة من الهزيمة والتمزّق، وما وصل إليه الشّعر من السّطحية والرّكاكة والضّعف.
6 - .لم يبق في دار البلابل بلبل لا البحتري هنا ولا زرياب
لم يبق في الوطن العربي ( وقد يقصد هنا سوريا أرض الشعراء) أيّ من الشّعراء المبدعين الذين يحترفون الشعر فكلّ ما يكتب من الشّعر ما هو إلا سطحي هشّ خالٍ من المعاني العظيمة، ثمّ يشير إلى حالة الأمة العربية في زمن البحتري وزرياب حيث كانت الأمة العربية في
أوج ازدهارها واتحادها، على عكس ما نجده اليوم من تشتت وتخلف وفرقة ،فهذه الأرض أصبحت بلا شعراء محترفين للشعر .
يستخدم الشّاعر هنا أسلوب النفي ( غرضه حسب السّياق )
7 - قمر دمشقي يسافر في دمي وبلابل وسنابل وقباب
يعبّر الشّاعر عن حبّه وانتمائه لوطنه دمشق، فهي تسري في دمائه وعروقه وتراثها وحدائقها ومعالمها تسري أيضا في دمائه
.
8 - . أمشي على ورق الخريطة خائفا فعلى الخريطة كلنا أغراب
يصف الشاعر حالة الخوف التي يعيشها بفعل فكره المطالب بالحريّة والسلطة المستبدة بمواطنيها الكابتة لحرياتهم، ثمّ يبّين حالة التمزّق والتشرذم التي أصابت الأمّة العربية والهزيمة التي تجعل الإنسان العربي غريبا في وطنه لأنّه لا يجد فيه الأمن ولا السكن ولا الاطمئنان.
9 - .يا تونس الخضراء كأسي علقم أعلى الهزيمة تشرب الأنخاب؟
.
نخب : شربة من الخمر
يكرّر الشّاعر المناداة لتونس ليبيّن مرارة الكأس التي لا يتنعمّ بذوقها الحلو، إذ أصبحت هذه الكأس مرّة نتيجة لأحوال الأمّة العربيّة ، ثمّ يتساءل الشّاعر مستغربا ، هل تشرب الخمور فرحا بهزيمة الأمّة ( لأنّ نخب الخمرة يشرب عند الفرح)
يستخدم الشّاعر أسلوب الاستفهام لغرض العتاب واللوم
يستخدم الشّاعر النّداء :يا تونس ، لغرض التألم والتوجّع
10- .لا تعذليني إن كشفت مواجعي وجه الحقيقة ما عليه نقاب
يوجه الشّاعر خطابه لتونس ، بعدما كشف ما يختلج في صدره من ألم وحرقة على حالة التمزق والتشتت والكبت التي تعيشها الأمة العربية، ثمّ يستطرد قائلا :إنّ هذه الحقيقة لا يمكن إخفاؤها أو تستر بنقاب .
يستخدم الشّاعر أسلوب النفي ( غرضه حسب السّياق)
أسلوب الشرط : إن كشفت مواجعي، والغرض من التّأكيد على الفكرة ( انظر إلى السّياق )
11 - إنّ الجنون وراء نصف قصائدي أوليس في بعض الجنون صواب؟
إنّ الصراحة التي يكشفها الشّاعر في الجري وراء الحريّة وكشف وفضح التمزّق الذي اصاب الأمّة العربيّة صادرة من الجنون لأنّ يتحدث بحرية في ظل سلطة مستبدّة ، ولكن يقرّ ويثبت من خلال سؤاله الاستنكاري ، أّنّ الجنون في بعض الأحيان يصل إلى الهدف المنشود ويكتشف الآخرون أنّ ما قيل عنه جنون ما هو إلا عين الصّواب .
يستخدم الشّاعر أسلوب الاستفهام ، وغرضه الإثبات والتّقرير
12 - .فإذا صرخت بوجه من أحببتهم فلكي يعيش الحب والأحباب
فصرخة العتاب واللوم على المحبوب تأتي لتجديد الحياة في عروق الحبّ والأحباب.
يستخدم الشّاعر أسلوب الشّرط ، وغرضه التأكيد على الفكرة ( حسب السّياق )
تحليل الفصيدة
هذه قصيدة سياسية، فيها رثاء لأمجاد العرب الغابرة، وفيها ذم مبطن للوضع السياسي والاجتماعي.
الخصائص الأسلوبيّة والفنيّة:
استخدام اسلوب النداء : يا تونس،
استخدام أسلوب الاستفهام: هل دولة الحبّ التي أسستها سقطت ؟ من أين أدخل ؟
توظيف أسلوب التّكرار : تونس الخضراء، دمشقي، الجنون ، الخريطة .
استخدام أسلوب النفي: لم يبق ، لا البحتري ولا زرياب، لا تعذليني
توظيف أسلوب التّوكيد : إنّي دمشقي ( الحرف المشبه بالفعل إنّ يدل على التوكيد)، إنّ الجنون وراء نصف قصائدي.
الكناية : دار البلابل :كناية عن سوريا موطن الشعراء ، الخريطة كناية عن الوطن العربي المقسم، كأس علقم كناية عن مرارة الهزيمة...
استخدام أسلوب الشرط : فإذا صرخت..
استخدام التناص : لا البحتري ،ولا زرياب ، والغرض من التناص هو من أجل المقارنة بين شعراء الماضي الذين احترفوا الشّعر وأبدعوا فيه في ظل ازدهار الدّولة العباسيّة مع شعراء اليوم الذين يكتبون شعرا هزيلا ركيكا بلا معنى في ظلّ انهزام وتراجع الأمة الإسلامية عن الازدهار والتطوّر
من حيث المبنى والشكل
القصيدة تنتمي الشّعر النيوكلاسيكي ( التيّار الاتباعي – الكلاسيكي الجديد) ومن ميّزاتها:
-قافية موحّدة.
-تقسيم البيت إلى صدر وعجز .
-وزن واحد لكل الأبيات .
-طرح موضوع ملائم للعصر
-شعر المناسبة ( أي أنّ الشّاعر يكتب الشّعر حين تحلّ مناسبة ما ).