3 قراءة دقيقة
18 Oct
18Oct

أعزّائي متصفّحي الموقع: إذا كنتم تستفيدون من هذا الموقع ومن أجل استمراره في خدمتكم نرجو التبرّع للموقع على حساب رقم: 205327840
فرع رقم 1
بنك رقم 18
وبارك الله بكم


ايها القادم- فهد ابو خضرة

( هذه المادّة من إعداد وكتابة الأستاذ عبدالرّحيم الشيخ يوسف ) له كلّ الثّناء والشّكر وتنشر هنا بمصادقته 

  • أيها القادمُ في مَركَبةِ الشمسِ الى أرض الفداءِ
  • لم يَحنْ وقتُكَ بعدُ
  • ******
  • هاهنا في قمَّة الأحقاد والويلِ المعادْ
  • لم تزَلْ تنتظر الأيام نيرون الجديد
  • علَّها تُحرَق في ذاكرة الحاضر روما, 
  • والرَّماد
  • يبرِئُ الأعينَ من داءٍ طواها ألفَ عامِ

*******

  • هاهنا الاخرُ ملءَ الذاتِ والذاتُ ضحيَّةْ
  • والغدُ المقبِلُ طوفانٌ من الشكِّ,
  • وحلمُ الأبديّةِ
  • لم تزلْ ترفعهُ الأَهواءُ في الأققِ هدايا
  • وقرابينَ
  • لأَصحابِ المقاماتِ السَّنيّة

*******

  • هاهنا الوهمُ هو السَّيِّدُ
  • والفكرُ المُضاءْ
  • وجعُ الأعماقِ أو سخريةُ الافاقِ
  • أو جَرحُ السَّفيهِ
  • أيُّ تيهِ
  • يحجبُ الضَّوءَ الذي يقبعُ في حضنِ الغمامْ!

********

  • أيها القادمُ في مركبةِ الشمسِ إذا وقتكَ حانا
  • أترى ما كان بالأمسِ يعادُ ؟
  • أترى تورِقُ في الصَّحراءِ أغصانٌ
  • وتخضَرُّ دروبُ ؟
  • أترى يقتلعث الوهمُ الذي ساد الزّمانا ؟

**********

  • أيها القادمُ في مركبةِ الشمِسِ الى أرض الفداءِ!
  • أترى وقتكَ وقتي ؟

تفسير الكلمات الغامضة:

  • يحين: يأتي وقته او يقترب
  • الويل: حلول الشر او الهلاك
  • نيرون: خامس واخر امبراطور في الامبراطورية الرومانية
  • طواها: لفها عكس نشرها, اخفاها.
  • الذات: النفس
  • الأهواء: الرغبات
  • المقامات السَّنية: المراتب الرفيعة, العالية.
  • الوهم: التخيل, الإدعاء الكاذب غير الحقيقي
  • الافاق: جمع أفق وهو اخر ما تراه العين , النواحي
  • السَّفيه: الجاهل رديء الخلق
  • تيه: ضلال
  • دروب: جمع درب, طرقات
  • سادَ: حكمَ, تسلَّط على.

التحليل الادبي-  المضمون:

القسم الاول- الطلب من القادم ان لا يأتي (1-2):

تبدأ القصيدة بكلمة "أيها" والتي هي عبارة عن اسلوب نداء فالمنادى يفترض أنه على قرب أو معرفة معينة, لأنه يسمه بالقادم الجديد فهو يتوقع مجيئه, ولكن باسم الحاجة, وباسم المعرفة والألفة المفروضة من الحالة الوجدانية هذه ينادي القادم طالباً منه أن لا يحضر ومبيناً سبب هذا الطلب, وهو ان ميعاد حضوره معروف لأن له وقتاً معيناً, وحسب توضيح المنادي أن هذا الوقت لم يحن أوانه.

ونقول: ان تلاحق افكارك بعد ذلك, يشير ويعلم ان المنادي قد يكون لسان الحال واقع معين يمثل حاجة جماعية, وأن المنادى قادم له دور عند حضوره, أي انه سيقدّم امرا فيه لفت النظر وخدمة ومصلحة من سيحل معهم. وفي هذه الحالة التي نحن بصدد استعراضها نجرؤ على القول بأن الشاعر إنما قصد المخلص الأبدي الذي وعد به الناس, فهو المهدي المختار أو المسيح المنتظر أو اسم اخر. ولماذا يعلن الشاعر أن وقته لم يحن بعد, وما هي علامات ذلك, وما هي المصلحة في تأجيل القدوم في مركبة الشمس الى الأرض؟ ربّما كان ذلك كما قال الشاعر السوري عمر أبو قوس:

كُلَّما اسَّودَّت البسيطةُ ألقَت       عبقريّاً أو شاعراً أو نبياً

وبكلمات اخرى, بل طبقاً لاجواء أسطر القصيدة يبدو ان هنالك متّسعاً باقياً للمفاسد, فلم تأخذ وسعها بعد, والشاعر يبد؟أ في سرد هذه المفاسد التي لم تملأ الأرض بعد, ولذلك تأجيل قدوم القادم من الشمس يكون أكثر نفعاً حين يُطْبِق اليأس وتنغلق مطالع وشبابيك الأمل والحياة الشريفة.

القسم الثاني- ترقب وتوقع قدوم مدمر ومهلك جديد (3-7):

يبدأ الشاعر بعرض صور المفاسد والشرور التي تسيطر على الحياة, وربما كانت كلمة " هاهنا" تعني على الارض بشكل عام, وربما تشير الى دلالتها الحقيقية يعني المنطقة التي يتواجد فيها الشاعر. ونحن نرجِّح المعنى الأول, لأن الفساد والطغيان وتعثر الحياة تملأ الأرض.

وأول ما يعدد الشاعر: الأحقاد والويل.

أما الاحقاد فهي كوامن قوة رفض الاخر, وتبييتُ تصفيته إذا استطاع الحاقد الى ذلك سبيلا , فالحاقد لا تنطوي مشاعره على ود وعلى امكانية لمراجعة النفس والاعتراف بالاخر وبحقوقه.

والويل وهو حلول الشر والهلاك, وحين يقال ويل له يعني أنه يخبر بأن مصيره الشر والهلاك. ولكن هنا يعلِّمنا الشاعر بأن الويل معاد بمعنى أنه رجع ثانية. فيأتي بعد ذلك توضيح القضية. ويصرَّح عن صاحب الويل الأول نيرون, وفي قصيدتنا يشير الشاعر بأن الظروف الحياتية واستشراء الطبائع البشرية تستدعي مهلكا اخر بل نيرون الجديد. وبعد ذلك ربما يتهيأ الزمن لحضور القادم الجديد (المخلِّص أو المهدي المنتظر). ونلمح التناص الموضوعي إن جازت التسمية, حين يذكّر الشاعر بجريمة نيرون المنسوبة اليه وهي حرق روما. ويضخّم من امكانية ظهور نيرون الجديد بأن جرائمه وأضراره تكون مذهلة, بحيث ينسى الناس التدمير السابق في عهد نيرون الأول, لأن نيرون الجديد سيحرق ويدمر ما لا يتخيله عقل, فتفقد الذاكرة لدى الشعوب وتنسى حرق روما الاول.

القسم الثالث- من صور الواقع المؤلمة(8-13):

  في هذا القسم وفي سطر(8) يشير الشاعر الى وجود طرفين الواحد منهما ضحية, الطرف الأول: هو الاخر, وهذه الكلمة تذكر بالأنا, إذ إذا تحدثت عن اخر, فالمعادل الموضوعي يكون المتحدث. ولكن يوصف الأنا هنا بأنه ذات.

الطرف الثاني: الذات, ووراءها تكمن صورة المظلوم بل الضحية فالاخر يملأ الذات ونرى أن المعنى ينساق إلى التسلط وهضم الحقوق واحتلال الحرية وقتل الأنفاس الحرة وسلب الاملاك, وما شئت من اغتصاب للحياة المتاحة للجسم الحي. وعلى سبيل التمثيل وليس التأكيد فالاخر قد يكون الإسرائيلي المحتل الذي ملك أرض غيره وسيطر على أملاكه, وقد يكون الغرب الذي ملأ الدنيا استعماراً ونهباً لأموال الاخرين. ولكن يجب أن ننتبه الى أن الشاعر قد نوّه بأن الغد يحمل من البلايا أموراً لا تحصى ولا تعد ولا توصف, فهي كالطوفان الزاحف, وهذه البلايا منطقها الشكّ, بحيث أن أحلام الأبدية, أحلام البشر ستقدَّم هدايا وقرابين للأقوياء, فيعمّ الظلم وتكبت أنفاس الحريّة ويستدعي الوضع ظهور المخلّص.

القسم الرابع- سيادة الوهم (14-19):  

القول واضح جليّ: الوهم هو السيّدّ, والوهم هو اختفاء الحقيقة والتفكير السليم, فالمتوهم يتصرف بناء على التخيل, وهذا التصرف يحمل إمكانيات الخطأ واسباب الظلم معاً. وهاهنا كما يقول الشاعر أي في وجودنا كبشر الذي يقرر تصرفاتنا وعلاقاتنا الوهم. أي أننا نُلبِس الحقائق ضباب العمى, أما الفكر المضاء الذي يقود الى معرفة الامور كما هي, والى فتح البصيرة فإنه لا وجود له, ويبقى كجروح نازفة في اعماق الإنسانية . وكأن المدى وأجواء الحياة تسخر من الذين يتشبثون بإمكانية وجود الفكر النيِّر. ويستغرب الشاعر من احتجاب الضوء الذي بقي مغلَّفا بالغمام ولم يتسرب إلينا فيضيء وجودنا وأعماقنا, ويسأل أي تيهٍ, أي بعد ساحق ومدى لا حدود له ذلك الذي لم يتح للنور الحركة ويبقى خلف الغيوم. وإجمالا يتمن هذا القسم أو هذه الفقرة اعتبار الوهم وعدم التبصّر هو الذي يسود علاقات الناس وهو سبب من أسباب شقائهم ووجودهم المعذَّب.

القسم الخامس- سؤال للقادم هل يعود الأمس الجميل (20-24):

مرة اخرى يرجع الشاعر الى أسلوب نداء القادم في مركبة الشمس,  وفي هذه المرة يحمِّله مسئولية معينة ملخصاً له رغبتنا من حضوره وهي:

نحن نرغب في أن يتكرر عهد الأمس الجميل, فهل هذا ممكن, وهل هذا سيحدث؟ ويفصّل الأمس الجميل بما يلي:

  • هل تورق الاغصان في الصحراء, بمعنى هل يتغلب الخير على الشر؟ هل تنبت في الصحراء النباتات ويكون ذلك إذا تفجرت فيها المياه وتخلّت عن طبعها الجاف وحرارتها المحرقة, ويعود بالإمكان مصاحبتها فتصبح جنة فيحاء بدل أن كانت بيداء جرداء.
  • هل ستخضرّ طرق البشرية؟ بمعنى ينتهي الشر ويسعد الناس بالحياة بدل أن يشقوا بها.

  • هل تنتهي حكاية الوهم ويعيش الجميع في وضوح الرؤيا وانجلاء الحقائق؟ إن هذا التساؤل الذي مكَّن له المؤلف وجعله مواد حقيقية تبرهن على السعادة والهناء , يرجعنا الى قصيدة البئر المهجورة ليوسف الخال بنفس التلهف وبنفس ترصّد الغاية الحياتية الشريفة, فهو يقول:

         " لو كان لي أن أنشر الضياء من جديد"

           يقول إبراهيم في وريقة مخضوبة  بدمه الطليل,

         "ترى يُحَوِّلُ الغدير سيره كأن تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر, ويطلع النبات في الحجر؟"

القسم السادس- إغلاق القصيدة بسؤال (25-26):

كما بدأت القصيدة بسؤال عقب نداء ولكن السؤال كان لجذب الانتباه والتمهيد لخبر محدد مفاده أن وقت القادم في مركبة الشمس " المخلِّص" لم يحن بعد, انتهت بسؤال الختام وهو: هل سيحضر هذا القادم في وقت تواجدي بالحياة ليساعدني على دحر الظلم ونقلي من الظلمات الى النور. هل سيوافق حضور القادم وقت تواجد المظلومين العائشين بين أنياب الشرور, ويبقى السؤال بدون إجابة. إلا إذا اعتبرنا أن هذا الاستفهام جاء بشكل طلبي بمعنى اِجعل وقتك وقتي, أي حضورك وأنا حي أرى وأسمع لأحيا حياة العدل والحرية والمساواة.

إجمال المضمون:

قصيدة رؤيا وعمق, وأفكار شموليّة, يندمج فيها الشاعر مع الأفكار متخذاً مصلحة المجموع المفهومة ضمناً دتوراً فكرياً واهتزازاً وجدانياً تبحر فيه الأراء الفاضلة, وحب الناس جميعاً عبر الكل البشريّ أو الدائرة الشعبية الواسعة. والمضمون يرتكز على قيمة ومشروع القادم الجديد, وتلهفنا في عرض الشكاوى عليه طالبين الحضور من أجل الإصلاح. وقد فصّل الشاعر المفاسد والشرّ بعدة الفاظ وهي: الأحقاد, الويل, الأيام تنتظر نيرون الجديد, حرق روما ومأساتها في ذاكرة الشعب, يبرئ الأعين من داء طواها ألف عام. الاخر ملء الذات, الذات ضحية, طوفان الشكّ, الوهم. كل ذلك عناصر شر تملأ أجواء الحياة, يريدها المؤلِّف أن تنتهي.

ولنا أن نتساءل كيف يأتي هذا القادم وإلى أين يأتي ؟ فيكون الجواب

[في مَركبَةِ الشَّمسِ إلى أَرْضِ الْفِداءِ ]

أي أنه قادمٌ في مركبة الشمسِ أمَّا جواب السؤال إلى أين؟؟؟

فيأتي الجواب واضحا صريحا على النحو الذي نراه تحت عنوان إلى هذا الجزء من هذه الأرض الذي أطلق عليه تسميته الرائعة [ أرض الفداء ]

إذً نحن أمام حقل الابتلاءات  وأرض التضحيات الهائلة والمآسي الكبيرة التي جعلت من هذا القادم يأتي مسرعا في كوكبة الشمس لكي يزيل عن تلك الأرض العناء ولكن الشاعر فهد أبو حضرة بخاطب هذا القائل بلغة تكون صادمة للوعي حين يقول له بِلُغَةٍ جَازِمَةٍ [لَمْ يَحِنْ وَقْتُكَ بَعْدُ ]

تُرَى إنْ لم يَكُنْ وقته الآن فمتى سيكون ؟؟؟؟

لا يزال هناك متسع من الوقت لكي يستوي الحقد وتتمكن الظلمات من القضاء على كل بادرة أمل في هذا العالم

ولهذا نرى الشاعر يقول [ها هُنا في قِمّةِ الأَحْقادِ وَالوَيْلِ المُعادِ

لَمْ تَزَلْ تَنتَظِرُ الأَيّامُ نَيْرونَ الْجَديدْ

عَلَّها تُحْرَقُ في ذاكِرةِ الحاضِرِ رُوما،

والرَّمادْ

يٌبْرِئُ الأَعْيُنَ مِن داءٍ طَواها أَلْفَ عامِ.

ها هُنا الآخَرُ مِلْءَ الذّاتِ، والذّاتُ ضَحِيَّةْ،

وَالغدُ المُقْبِلُ طُوفانٌ مِنَ الشَّكِّ،

وُحُلْمُ الأَبَدِيَّةْ

لَم تَزَلْ تَرْفَعُهُ الأَهْواءُ في الأُفْقِ هَدايا

وَقَرابينَ

لِأَصْحابِ المَقاماتِ السَّنِيَّةْ

ها هُنا الوَهْمُ هُوَ السَّيِّدُ،

والفِكْرُ المُضاءْ

وَجَعُ الأَعْماقِ أَوْ سُخْريةُ الآفاقِ،

أو جَرْحُ السَّفيهِ.

أيُّ تيهِ

يَحْجبُ الضَّوْءَ الَّذي يَقبَعُ في حِضنِ الغَمامِ! ]

الواقع يكشف عن الأطوار المتعددة للظلمات التي تتمكن في الذات الإنسانية فتستلب منها كل معاني الجمال وتستبدله قبحا كلما غاب نيرون [لَمْ تَزَلْ تَنتَظِرُ الأَيّامُ نَيْرونَ الْجَديدْ

عَلَّها تُحْرَقُ في ذاكِرةِ الحاضِرِ رُوما،

والرَّمادْ

يٌبْرِئُ الأَعْيُنَ مِن داءٍ طَواها أَلْفَ عامِ ]

إِذًا نحن أمام إعادة أنتاج الشر ونيرون الذي دمَّر روما يعيد أنتاج نفسه في صور متعددة تبدو الأيام إطارا زمنيا لهذا الفعل النيروني  الذي من شأنه أن يؤخر لحظة الفرح والخلاص للإنسانية من هذا الشر المدمر الذي لَايبق ولا يَذَر

حين يكون الصراع مع الآخر الذي يحتل مساحة الذات بحيث يصبح مِلْئَهَا ويستبدلها بهوية أخرى هي هويته تصبح القضية الأساسية هي استعادة الذات المسلوبة استعادة الذات الحقيقية وتحريرها من أسر الأخر الذي يحتل تفاصيلها ويحاول أن يملئها بهذا الزيف المدمر الذي ينبعث ويعيد إلى الذهن مع كل قدوم جديد لنيرون الذي يتعهد روما دائما بالخراب والدمار الشامل يستبد الأخر بالذات يقتل الحلم بحيث يصبح ضربا من المستحيل

تبلغ المأساة ذروتها هاهنا حين يصبح الوهم هو السيد[ها هُنا الوَهْمُ هُوَ السَّيِّدُ،

والفِكْرُ المُضاءْ

وَجَعُ الأَعْماقِ أَوْ سُخْريةُ الآفاقِ،

أو جَرْحُ السَّفيه ]

في سياق كهذا يصرخ الشاعر متسائلا [.

أيُّ تيهِ

يَحْجبُ الضَّوْءَ الَّذي يَقبَعُ في حِضنِ الغَمامِ! ]

أي تيه يؤخر هذا القدوم الضروري للضوء في ظرف كهذا في ظرف تستبد به الظلمات كهذا الظرف الذي نعيش تصيح الحاجة لهذا القادم في مركبة الشمس ضرورية كي يصحح مجرى التاريخ يصبح هذا القادم اشبه ما يكون بالمهدي المنتظر الذي يأتي وقد أمتلأت الدنيا ظلما وجورا ليملأها عدلا وبهاء وضوءً يصبح القادم هو المسيح الذي يعيد البهاء لهذا العالم حين يُطَهِّر هذا العالم من قوى التدمير وتنتهي الظاهرة النيرونية إلى الأبد يصبح القادم في مركبة الشمس صوت انتصار الحقيقة وانتصار التجديد لقيم الضوء التي أتَى عليها حينا من الدهر لم تَعُدْ شَيئًا مَذْكُورًا

أما وقد ونحن في انتظار القادم وما تباشيره يسترسل فهد أبو خضرة في حواره وتساؤلاته الموجهة لهذا القادم حين يقول له [أيُّها القادِمُ في مَرْكَبَةِ الشَّمْسِ! إِذا وَقْتُكَ حانا

أَتُرى ما كانَ بِالأَمْسِ يُعادُ؟

أَتُرى تورِقُ في الصَّحْراءِ أَغْصانٌ

وَتَخْضَرُّ دُروبُ؟

أَتُرى يُقْتَلَعُ الوَهْمُ الّذي سادَ الزَّمانا؟

أَيُّها القادمُ في مَرْكَبَةِ الشَّمْسِ إِلى أَرْضِ الفِداءِ!

أَتُرى وَقْتَكَ وَقْتي ]

بالتأكيد حين يحين وقت قدوم المنتظر حين تحين عودة المسيح مرة أخرى حين تحين لحظة انتصار الضوء والحلم فإنَّ وجه العالم سيتغير وسيغادر الماضي البغيض إلى غير رجعة وستورق في الصحراء اغصان الحياة والأمل الكبير الذي سوف يعيد الذات إلى صفائها حين يقتلع الوهم من تلك الذات ويتطابق وقته مع وقت الشاعر الحالم بانتصار الحرية واندثار عصر الظلمات

الشرح الزائد يعيق الوصول الى أسباب في صياغة بعض القصائد. لا ضرورة احيانا للشرح لأن الصمت امام بعض الأفكار التي يطرحها الشاعر تزيد جمالية النص، خاصة القارئ المثقف المتميز بوعي فلسفي وانساني وشمولية ثقافية قادرة على ربط أطراف عديدة من الحلم الشعري بواقع الحياة، بوجعها وجمالها ، بحزنها وفرحها، بيأسها واصرارها وبفهم واع ان الظاهرة الشعرية، تخاطب العقل الباطني ، الأحاسيس، الأحلام، الأمنيات وصولا الى الإدراك الواعي للإنسان، الذي يربط بين الكلمة والصورة الشعرية، بين جمالية النص ، وعمق الرؤية.

رؤيتي في القراءات الشعرية انه من الأفضل اعطاء تفسير للظاهرة والإجتهاد للوصول الى الجوهر. بعد تفسير الظاهر يكاد يتوارى جهد تفسير الجوهر لأن الظاهرة هي شكل فلسفي لوجود الجوهر، الذي يسطع بقوة لا تحتاج الى مزيد من التفسير ، حتى لا يصير حالنا كمن فسر الماء بالماء، وتصبح الثقافة حسابات هندسية، وهو ما أكرهه في الكثير من النقد الذي يغرق بالشكل ويتجاهل الجوهر.

هذه الإشكالية بين الظاهر والجوهر، هي من الأشياء التي لا يستطع الإنسان ان يعبر عنها بالكلمات فقط، ولذلك ظهر الأدب عامة والشعر خاصة بالإيحاء والصور القلمية عن الفكرة والكلمة والجوهر الفلسفي للأفكار التي تحرك قلم ونشاط المبدع .

فهد ابو خضرة في قصائده يعلن ان العالم لا يدور حول مصادر الضجيج، رغم انها تلفت النظر ولكنها سرعان ما تتوارى، انما ما يشغل العالم ، وخاصة مفكريه وأدبائه ، ان يقدموا للإنسان قيم جديدة تأخذهم الى رحاب انسانية اجمل واوسع وتستحق ان نحيا من أجلها بعد ان يستتب العدل والحب بين البشر.

ايها القادم في مركبة الشمس الى أرض الفداء

لم يحن وقتك بعد

والآن اريدكم الانتباه  للمفارقة . الشاعر يخاطب القادم بأن وقته لم يحن بعد، هو قادم فلماذا ياتي قبل الوقت؟ الجواب في تتمة القصيدة:

ها هنا في قمة الأحقاد والويل المعاد

لم تزل تنتظر الأيام نيرون الجديد

علها تحرق في ذاكرة الحاضر روما ،

والرماد

يبرئ الأعين من داء طواها الف عام.

القادم في مركبة الشمس هو المسيح المنتظر، نيرون لم ينه مهمته بعد... ليحرق ما تبقى ، فحتى ينهي نيرون وظيفته، حتى يصل الشر الى اقصى حدود الويل والأحقاد ، بعدها سيكون ل "ألقادم" ان يجيئ ليبرى النفس البشرية من نيرون وأمثاله .

يمكن تأويل القصيدة في اتجاهات عديدة، من هنا جمالية الشعر الذي يدفعك للتفكير وليس للإسترخاء لحسن النظم فقط. يسطع بقوة في صوره الشعرية شكلا من الرؤية الصوفية، البعض قد يربط الفكرة الشعرية بالواقع السياسي، بالمآسي التي تواجه العديد من الشعوب وليس شعبنا فقط. انا اميل لفكرة ان فهد ابو خضرة اقرب للصوفية (بمفهومها الفلسفي) في ايماءاته الشعرية، الصوفية لا تعني التنسك عن واقع الإنسان ومعاناته، بل ظاهرة احتجاجية لغياب العدل الذي يحطم كمال الإنسان الأخلاقي.

ينهي قصيدته بتساؤلات يطرحها للقادم في مركبة الشمس اذا حان وقته – (التكنولوجيا جعلت الحمار الأبيض مركبة شمسية):

أترى ما كان بالأمس يعاد؟

اترى تورق في الصحراء اغصان؟

أترى يقتلع الوهم الذي ساد الزمان؟

اكاد اسمع فيروز تنشد "سنرجع يوما الى حينا". والأهم الا يكشف فهد في هذه القصيدة أكثر مما يخفي؟ في آخر جملتين تتضح الصورة:

ايها القادم في مركبة الشمس الى أرض الفداء

أترى وقتك وقتي؟

هذا ما يقلقنا جميعا. نريد للقادم ان يعود في وقتنا حتى يتسنى لنا يوم نحياه بفرح بدون نيرون وشركاه، بدون الحرق والقتل ومعاناة بني البشر.

لا أظن ان اجتهادي في طرح رؤيتي الذاتية يخدم عرضي الثقافي، ولا اقول نقدي، فقد أسعفني الدكتور الأديب والمفكر والمحاضر في السوربون افنان القاسم بتعبير "عرض" بدل كلمة "نقد" التي لم أحبها يوما، في وصف مراجعاتي الثقافية،

لا بد من شحذ ذهن القارئ الى ان موضوع القادم لا ينتهي , الا يشير ذلك الى رؤية فلسفية ما يحاول الشاعر ان يطرحها ؟ مثلا هل يختلف جوهر كلمة "قادم" بمعناها العملي، عن كلمة "عائد"؟ اليس في القدوم عودة وفي العودة قدوم؟ اذن قصيدته الثانية هي استمرار لانتظار القادم، الذي يصير هنا عائدا.


الشكل:

المبنى العام: قصيدة من الشعر الحر الموزون نظمت على تفعيلة بحر الرمل فاعلاتُن(- ب- - ) وأحيانا فَعِلاتُن( ب ب- -)

القافية: لا يلاحظ أن الشاعر طلب القافية والتزمها على طول القصيدة, اللهم إلا شيئاً بسيطاً منها جاء بدون قصد, وإنما صوت البديهة وعفو الخاطر, وهو في الاسطر الاتية: 8, 9, 13, ضحية وأبدية والسنية وفي 17, 18 السفيه وأي تيه.

تقسيم القصيدة الى مضامين متلاحقة:

قام بذلك الشاعر ونحن اضفنا تسمية مناسبة لكل فقرة , فالقسم الأول تألف من سطرين , والثاني من خمسة اسطر, والثالث من ستة اسطر , والرابع من ستة اسطر , والخامس من خمسة اسطر , والسادس من سطرين. ويلاحظ ان المواضيع التي عولجت بواسطة هذه الفقرات انحصرت في كل مرة بشكل مستقل. ونستطيع القول إن القصيدة امتازت بوحدة المقطع والفقرة. اعتمد مضمون القصيدة من أولها لاخرها على كلمتين تكررتا وكانت مفتاح القصيدة مضمونيا كما أنهما كانتا أسلوبا من أساليبها.

الأولى: هي أيها القادم, ويوحي هذا النداء بأن هنالك أمرا سيقال وسيصرح عنه, وقد كان هذا النداء مفتاح الفقرات: الأولى والخامسة والسادسة.

الثانية: ها هنا , وكانت مفتاح الفقرات الثانية والثالثة والرابعة. وهكذا لا توجد في القصيدة فقرة منفردة بدون أن تكون مشاركة في خارطة القصيدة البنيويّة ومساعدة في بلورة المعنى المطلوب.

الجمل الإنشائية:  تتواجد مثل هذه الجمل على قلّة, فهي جمل النداء الثلاث, هذا فضلا عن الجمل التي جاءت بصورة الاستفهام وهي: سطر(18) ,أي تيه, و (21) أترى ما كان بالامس يعاد, و(22) أترى تورق في الصحراء أغصان وتخضر دروب.أترى يقتلع الوهم (24), واخر جملة في القصيدة أترى وقتك وقتي. وما تبقى فهي وردت بالاسلوب الخبري.

القصيدة دائرية: حين بدأت القصيدة بنداء القادم: أيها القادم أُغلقت بنفس الكلمات وبنفس الاسلوب وهو النداء, أيها القادم.

القصيدة حلزونية: يُلاحظ أن فقراتها وردت متلاحقة بشكل تواصل معنوي, وفيه كل مفصل يضيف للذي قبله مضمونا اخر يؤكده ويؤثر فيه عن طريق عرض صورة جديدة.

مظاهر بلاغية:

الاستعارات والمجازات والكنايات:

  • مركبة الشمس: استعمال مجازي, فالشمس ليس لها مركبة وشبهت بأنسان له مركبة, ووظيفة هذا النمط من الاستعارة أن يؤكد أن الشمس لها جنودها وممثِّلوها, ويدل ذلك على السمو والارتفاع في الكلام, استعارة مكنية (1)
  • قمة الأحقاد: تركيب مجازي , جعل الأحقاد كمواد تتراكم وتصنع قمة على سبيل الاستعارة المكنية(3)
  • الايام تنتظر نيرون: شَخَّصَ الايام وشبهها بالناس على سبيل الاستعارة المكنية (4)
  • تحرق في ذاكرة الحاضر: في الكلام أولاً تزامن حسي (5) , لأننا فهمنا النسيان بلغة النار. وهي استعارة مكنية, لأن الحاضر شُبِّهَ بالانسان الذي له ذاكرة.
  • الاخر ملء الذات: فهمنا تواجد الطرف الثاني بالكمية, ونقول ايضا أن في الكلام تزامناً حسياً سطر (8)
  • الغد طوفان من الشك: شبه الغد بالبحر الهائج أو شبهه بنتيجة لوابل من الامطار والعواصف التي خلفت طوفانا والطوفان من الشك, فالتزامن الحسي موجود لأننا فهمنا الكثرة التخيلية وهي الشك الكثير بشكل الماء (9)
  •  الأهواء ترفع حلم الأبدية: استعارة مكنية, حيث شًخَّصَ الأهواء وجعلها قادرة على الرفع (10,11).
  •  الوهم هو السيّد: سطر (14) , شبه الوهم بإنسان متسلط في الكلام, استعارة مكنية.
  • فكر مضاء, وجع الاعماق, سخرية افاق , الفكر شبه بالضوء, والاعماق بالجسم الذي يحس,  والافاق بالانسان الساخر. استعارات مكنية (15,16).
  • حضن النحوم: استعارة مكنية, شبه النجوم بانسان له حضن.
  • يُقتَلَعُ الوهم: سطر(24), شبه الوهم بنبتٍ شرير له جذور, الاستعارة مكنية.

الكنايات:

  • أرض الفداء: سطر (1), ربما تكون كناية عن بلادنا فلسطين التي بُذِلَت فيها على مر العصور أرواح تُفدِّيها وتدافع عن حرماتها كحالها اليوم.
  • الويل المعاد: سطر(3), كناية عن الشرّ المتفجِّر من جديد.
  • نيرون الجديد: كناية عن مجرم جديد (4)
  • ملء الذات: كناية عن السيطرة الكاملة (8)
  • أصحاب المقامات السنيّة: كناية عن الزعماء وأشباههم (13)
  • الفكر المضاء: كناية عن التنور والتفكير السليم (15)
  • تورق في الصحراء أغصان: كناية عن الخير (20)

يُلاحظ أن القصيدة تخلو من التشبيهات والمحسنات البديعية.

إجمال الشكل:

قصيدة حرة موزونة على بحر الرمل, وهي دائرية وحلزونية معاً. لغتها مألوفة, ديباجتها قوية, تكررت فيها كلمتا أيها وها هنا وكانتا مفتاح المضامين في القصيدة.

هذا وقد أشرنا الى مظاهر بلاغية مألوفة في الشعر الحر, وهي الاستعارات والكنايات وبعض الاماكن التي ظهر فيها التزامن الحسي, كما وضحنا جميع الجمل الإنشائية.




  





تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة