1 قراءة دقيقة
20 Sep
20Sep

9- ابو العلاء- محمد مهدي الجواهري نشرت في جريدة "الرأي العام" العدد 1121 في 5 تشرين الأول 1944  

   قِفْ بِالْمَعَـرَّةِ وَامْسَحْ خَدَّهَا التَّرِبَـا وَاسْتَوْحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنْيَا بِمَا وَهَبَـا(1) 

وَاسْتَوْحِ مَنْ طَبَّـبَ الدُّنْيَا بِحِكْمَتِـهِ وَمَنْ عَلَى جُرْحِهَا مِنْ رُوحِهِ سَكَبَـا 

عَلَى الحَصِيرِ.. وَكُـوزُ الماءِ يَرْفُـدُهُ وَذِهْنُهُ.. وَرُفُـوفٌ تَحْمِـلُ الكُتُبَـا

 أَقَـامَ بِالضَّجَّـةِ الدُّنْيَـا وَأَقْعَـدَهَا شَيْـخٌ أَطَـلَّ عَلَيْهَا مُشْفِقَاً حَدِبَـا 

بَكَى لأَوْجَـاعِ مَاضِيهَا وَحَاضِـرِهَا وَشَـامَ مُسْتَقْبَـلاً مِنْهَـا وَمُرْتَقَبَـا

 وَلِلْكَآبَـةِ أَلْـوَانٌ، وَأَفْجَعُــهَا أَنْ تُبْصِرَ الفَيْلَسُوفَ الحُـرَّ مُكْتَئِبَـا

 تَنَـاوَلَ الرَّثَّ مِنْ طَبْـعٍ وَمُصْطَلَـحٍ بِالنَّقْـدِ لاَ يَتَأبَّـى أَيَّـةً شَجَبَـا

 وَأَلْهَـمَ النَّاسَ كَيْ يَرضَوا مَغَبَّـتَهُم أَنْ يُوسِعُوا العَقْلَ مَيْدَانَاً وَمُضْطَرَبَـا(9)

 وَأَنْ يَمُـدُّوا بِـهِ فِي كُلِّ مُطَّـرَحٍ وَإِنْ سُقُوا مِنْ جَنَاهُ الوَيْـلَ وَالحَرَبَـا

 لِثَـوْرَةِ الفِكْـرِ تَأْرِيـخٌ يُحَدِّثُنَـا بِأَنَّ أَلْفَ مَسِيـحٍ دُونـهَا صُلِبَـا 

إنَّ الذِي أَلْهَـبَ الأَفْـلاكَ مِقْوَلُـهُ وَالدَّهْرَ.. لاَ رَغَبَا يَرْجُـو وَلاَ رَهَبَـا 

لَمْ يَنْسَ أَنْ تَشْمَلَ الأَنْعَـامَ رَحْمَتُـهُ وَلاَ الطُّيُورَ .. وَلاَ أَفْرَاخَـهَا الزُّغُبَـا 

حَنَا عَلَى كُلِّ مَغْصُـوبٍ فَضَمَّـدَهُ وَشَـجَّ مَنْ كَانَ، أَيَّا كَانَ، مُغْتَصِبَـا 


تناول الجواهري شخصية المعرّي من جميع جوانبها، وقد ركّز على الجانب الفكري لأنه المهم الذي يعالج التداعيات المتواصلة، ويضع الحلول المناسبة للأزمات والإخفاقات المتكررة، التي تواجه المثقفين. كان الاستهلال بأفعال الأمر (قف، وامسح، واستوح، وسائل) ذات الدلالات التأملية، التي يحاول الشاعر من خلالها إيقاظ مشاعر المتلقي ليبصر الواقع، فكانت ضربات متلاحقة لإحداث التوتر في ذهنه أولاً.
وثانيًا: خلق استجابة فكرية لاستيعاب التراث من خلال الألفاظ الأخرى ذات التراكيب الفخمة التي توافرت في مستهل القصيدة، لأن الاثنين السالفين معًا «يقلقان ذهن المتلقي، ويفصلانه عن جوه الاعتيادي ليدخل جوّا خاصًا يخلقه الشاعر ويفرضه منذ أول بيت». وفضلاً عن هذين العاملين، يقف المكان (معرّة النعمان) ليعطي الفضاء الشعري بعدًا دلاليًا يغور إلى أعماق التاريخ، مستعينًا بالتشخيص الذي أبدع الشاعر في استخدامه أسلوبًا للخطاب الشعري في استنطاق ذلك المعلم التراثي الذي أضحى يصارع الزمن ويفرض بقاءه بقوة. 

وإلى جانب التشخيص كانت الاستعارة الفن البلاغي الآخر، الهدف منه تقريب الصورة من ذهن المتلقي كي تكون الرسالة الإبداعية واضحة ومؤثرة، فالمسح عن خد المعرّة يعني إعادة قراءة تراث ذلك المبدع وتأمل مضامينه الفلسفية والفكرية، وإسقاطها على الواقع. لقد خاطب الجواهري المثقفين لاستشراف الحاضر واسترجاع بعض القيم الفكرية والحضارية الرائعة قائلاً:
قفْ بالمعرةِ وامسحْ خدَّها التَّرِبا
واستوحِ مَنْ طوّق الدنيا بما وهَبَا
واستوحِ مَنْ طبّب الدنيا بحكمتِهِ
ِومَنْ على جُرحِها من روحِهِ سكَبا
وسائِل الحفرةَ المرموقَ جانبُها
هل تبتغي مطمعًا أو ترتجي طلبا
إن أفعال الأمر في النص تخلق أجواء محفّزة للمثقف ليقرأ كنه هذا الرمز ليسبر غوره، فضلاً عن أنها تعكس لنا تفاعل الجواهري مع المعرّي وإبراز محاور شخصيته بشكل جلي.

 أهم مرتكزات قصيدة الجواهري هذه:
1. فلسفة أبي العلاء المعري .
2. فقدان البصر.
3. مأساته ومواقفه من الحياة وملاذّها.
4. الواقع.
عدد أبيات القصيدة 91 بيتا منشورة في ديوان الشاعر الجزء الثالث الذي جمعه وحققه وأشرف على طبعه د. إبراهيم السامرائي، د.مهدي المخزومي، د. علي جواد الطاهر، ورشيد بكتاش، طبعة وزارة الإعلام العراقية 1974م. لقد قدمت القصيدة الأسباب والنتائج والمعالجات لتلك الإخفاقات، ووضعت بعض الحلول المناسبة لتجاوز التداعيات التي رافقت حياة المعرّي ومازالت تتفاقم، فاستشرف الماضي لغرض إسقاطه على الحاضر.
فلسفة المعري
أبو العلاء المعري شاعر ألمّ بفكر العرب وثقافتهم، ويمتلك شخصية قوية استمدت من تلك الثقافة رموزها الفلسفية ومعانيها، فكانت القصيدة عنده غير خاضعة «إلى القراءة الأولى لأن رموزها ذات دلالات فنية موغلة في الخصوصية ومرتبطة بتأمل فلسفي عميق وبتراث العرب الأسطوري والفكري القديم»، فكان هذا الرمز موضوعًا ثرّا للشاعر الجواهري الذي يمتلك فكرًا وقّادًا وثقافة واسعة واستيعابًا للتراث واستثمارًا عميقًا لرموزه، فجاء شعره متفرّدًا في القرن العشرين ببنائه وصوره فاستحق بجدارة لقب «شاعر العرب الكبير»، فضلاً عن أنه لم يتبع خطى مَن سبقه من الأعلام، وإنما جاءت قصيدته علائية في موضوعها وبنائها الفني والفكري، لتجسّد تلك الموهبة الفذة والحياة البسيطة الفقيرة، وأن تلك الأسباب هي سر الإبداع الشعري لتكون منطلقًا لمخاطبة المثقف للاقتداء بهذا المفكر الذي هكذا رآه الجواهري:
على الحصير..ِ وكوزٍُ الماء يرفُدُه
وذهنُه... ورفوفٌ تحملُ الكتبا
أقامَ بالضجَّةِ الدنيا وأقعدَها
شيخٌ أطل عليها مُشفِقًا حَدِبا
بكى لأوجاعِ ماضيها وحاضرِها
وشامَ مستقبلاً منها ومُرتَقَبا
وألهمَ الناسَ كي يرضوا مغبّتهم
أن يوسِعوا العقلَ ميدانًا ومضطربا
فالحصير وكوز الماء والذهن المتوقد والكتب خطوط عامة لثقافة المعرّي ، التي استشرف الجواهري من خلالها الربط بين الماضي والحاضر، وكأن الشاعر أراد أن يوحد الأزمنة المتحركة تحت ميدان العقل العنصر الرئيس الذي يتحكم بها على وفق رؤية إبداعية، وقد كانت الثنائيات عماد الصورة فـ (أقام وأقعد وماضٍ وحاضر... إلخ) من العناصر المهمة في النص التي ساهمت في توهج الصورة وإعطائها حركة اهتزازية متناغمة تكشف عن إبداع شعري واستثمار للغة في أروع ما يمكن أن تكون عليه من حيث الدلالة والتركيب، فجاء السياق مستوعبًا لأفكار الجواهري التي صبّها في القصيدة فازدادت صورة ذلك الشيخ ألقًا وتوهجًا من خلال رؤيته الثاقبة للواقع، وقد قدمه الشاعر في أبهى حلّة، فالشيخوخة مرحلة النضج والاكتمال الفنيين، والعقل بؤرة كل شيء وإليه يجب أن نحتكم. لقد هيمن الفعل الماضي على الخطاب الشعري في بدء القصيدة، وهذا أمر منطقي لأن الخطاب يغور بعيدًا إلى المعري في القرن الرابع الهجري، أما أفعال المستقبل فهي خطاب موجه إلى المثقف في القرن العشرين الذي يجب أن يتحرر من عقد الماضي وينتبه إلى المستقبل من أجل بناء فكري متقدم.
الجواهري معجب بفلسفة المعرّي أيّما إعجاب ولاسيما محاور الشخصية التي طرحها النص وهي حرية الفكر والحرمان والغضب، وقد اجتمعت في شخص المعرّي بيد أنها لا تجتمع عند الآخرين أو تتوافر حصيلة دون أخرى «فعنصر الفلسفة محور في حرية الرأي، وعنصر العمى محور في الحرمان، وعنصر الهوى محور في الغضب، فالجواهري أراد تحقيق معادلة بين تلك العناصر التي تميّز الأديب الحقيقي والفنان المبدع من غيره».
لقد كانت فلسفة المعرّي في الحياة فريدة من نوعها، فلم يعبأ بها ولا بملاذها، ولم تغرّه، بيد أننا من خلال استقراء مفردات الحياة، نلاحظ أن بعض الناس تغريهم، وأحيانًا تغري صاحب الرأي الحصيف وهذه مفارقة فيكون إبداعه ناقصًا أو مشوها:
فرُبَّ ثاقبِ رأي حطَّ فكرتَه
غنمٌ فسفّ وغطّى نُورَهَا فَخَبا
وأثْقلَتْ متْعُ الدُّنيا قوادمَه
فما ارتقا صعدا حتى ادَّنى صَبَبا
بدا له الحقُّ عُريَانًا فلم يَرَه
ولاح مَقْتلُ ذِي بغيٍ فما ضَرَبا
هكذا رأى الخلفُ السلفَ، أو جسدّ أفكاره وما يختلج في نفسه، وقد بني النص على المفارقة الشعرية فكانت «ارتقى صعدا» تقابلها «ادّنا صببا»، «وبدا له الحق» تقابلها «فلم يره»، و«لاح مقتل ذي بغي» تقابلها «فما ضربا». إن هذا البناء الشعري يحيلنا إلى واقع المجتمع وإغراءات الحياة ومدى انقياد بعضنا إليها، وعزوف القليل الذي يتحلّي بالصبر والحكمة والقناعة عنها، وأن حرمان المعرّي نتج عنه التمرد والرفض لما يحيط به من علاقات زائفة، وهذا هو الصنف الثاني الذي عبّر عنه الجواهري:
وربَّ راضٍ من الحرمانِ قِسْمتَه
فَبَرَّر الصَّبْرَ والحِرْمَانَ والسَّغَبا
أرْضَى وإنْ لمْ يشأ أطْمَاحَ طاغية
وحال دون سوادِ الشّعب أن يَثِبَا
وعوَّضَ النّاسَ عنْ ذلّ ومَتْربةٍ
من القناعَةِ كنْزَا مانِحًا ذَهَبا
هذا الصنف من الناس يقف المعرّي في مقدمتهم، أو هكذا رآه الجواهري تغيرًا حكيمًا رائعًا يهب الناس العلم والمعرفة على مر العصور.
ماذا عن الواقع؟
لقد استخدم الشاعر اسم الفاعل في بناء الجملة الشعرية كي يعطي الأسلوب الشعري طابعًا سرديًا متعاقبًا ويتلاءم مع واقع الحياة الفكرية والاجتماعية في العراق، وما آلت إليه من تدنٍ في المستويات كلها بسبب ضعف الجانب السياسي وتواضع المستويات الإدراكية والثقافية عند عامة الناس واقتناعهم أن الحكام يجب ألا يجابَهوا بالعصيان، وهذه طامة كبرى. وقد استغل الحكام ضحالة التفكير تلك من أجل تحقيق مآربهم، وذلك ما أحدث ردة فعل عكسية عند المثقفين في تمرّدهم على السلطة.

معادلة غير متكافئة وحقيقة مرّة تلك التي صرّح بها الجواهري وهو يرى شاعرًا مبدعًا قبل أكثر من ألف سنة وقف الموقف نفسه من تلك التداعيات رافضًا استغلال الآخرين لبعضهم فثار على الظلم والاستغلال فاتُّهم اتهامات عدة. أفاد الشاعر من تراثه اللغوي، وهذا يبيّن لنا سعة ثقافة الجواهري وهيمنته على تقنيات النص الشعري، فأكثر من استخدام الأفعال المتباينة في أزمنتها على وفق متطلبات النص لخلق توتر وديناميكية، فضلاً عن استخدام الأفعال المضعفة التي تعطي المعنى قوة في التأثير والدلالة، وأن الفعل له قدرة على «التغير والتحول نظرًا إلى طاقته الحركية زمنيًا وصرفيًا. وتأتي هذه الحركة أيضًا من تلون الفعل تعديًا ولزومًا، وتمامًا ونقصانًا وتجريدًا وزيادة، فضلاً عن بنائه للمعلوم والمجهول»، وتوظيف مشتقاته من أجل إضفاء السردية على النص.
طريقة الجواهري في رسم الصورة طريقة التجريد أو الوصف أحيانًا لينقلنا إلى الأجواء الحقيقية التي عاشها المعرّى ، وأفصحت هذه القصيدة عن تربع الجواهري على عرش الشعر العربي في القرن العشرين من خلال بنائه الشعري وتراكيبه الفخمة وتجسيد العوالم السالفة بدقة، فكان التراث رافدًا ثرّا للشاعر الحديث.
المبدعون منذ حقب كانوا ضحية لا لذنب اقترفوه، بل لأنهم مبدعون، وظروف المثقف اليوم مليئة بالمعاناة والحرمان. لقد استوعب الجواهري ظروف المعرّي ، فكانت قصيدته صادقة في تعبيراتها ذات لغة عالية «تدل على خزين تراثي غزير وعلى نظرة عصرية جريئة بعيدة عمّا يسمّى في بعض الدراسات النقدية المعاصرة الارتجال الفني». إن قصيدة «قف بالمعرّة» كشفت عن ذات مبدعها وهو في قمة النضج الفني، وهذه القصيدة تحدثت بضميري الغيبة والخطاب اللذين يعودان على المعرّي ، وضمير الأنا الذي يعود على الجواهري لأنه محور الإبداع الفني بموسيقى انسيابية لبحر فخم هو البسيط الذي عوّدنا الشاعر أن نقرأ له روائع فنية مثل «يا دجلة الخير» وغيرها.
الجواهري في رائعته هذه، أراد أن يكشف عن تمرّده أو ثورته على واقع مترد، فعاش في أعماق الحدث العلائي ببائيته ذات الروي المنفجر الذي استوعب ارتجاج حرف القلقلة الباء. لقد رأى الجواهري أستاذه المعرّي فكرًا متجددًا كلما يزاح عنه غبار السنين بدا متوهجًا يمنح القادمين دروسًا في الفكر والحياة وثورة على الواقع، محاولاً فتح آفاق جديدة لفهم الحياة التي ينبغي أن تُدرك على وفق رؤيته.
نَوّر لِنَلْ إننا في أي مُدّلجٍ
مما تشكّكْت إنْ صِدقا وإنْ كَذبا
وفي الختام كانت هذه الرؤية البصرية الإبداعية الواعية لشاعر الرؤية القلبية في طليعة الشعر العربي في القرن العشرين، والتي تكشف ايضًا أن المرجعية الذاتية والتراثية رافد من روافد الإبداع الجواهري.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة