شرح قصة انهيار - أحمد حسين
تحليل نصّ انهيار
العنوان: إنّ العنوان عبارة عن عتبة الدّخول إلى النّصّ، وإذا نظرنا إليه من النّاحية الصّرفيّة، فهو عبارة عن مصدر للفعل انهار، من الوزن انفعل. وهنا لا بدّ لنا أن نقف على مدول العنوان، نلاحظ أنّ الكاتب اختار كذلك فعلا أجوف، ولهذا ربط مع مضمون النّصّ بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. بدءا من الوزن انفعل والّذي يتضمّن مشاعر إن كانت سلبيّة أم إيجابيّة. وهو عبارة عن نتيجة لما قبله فنقول مثلا كسرتُ الزّجاج فانكسر. فلا بدّ أنّه حدث شيء ما أو أشياء أدّت إلى الانهيار، وهذا ما سيكتشفه القارئ خلال النّصّ. كون الفعل معتلا أجوف، له دلالة بارزة ترتبط ارتباطا وثيقا مع النّصّ، فحروف العلّة هي حروف ناقصة، وكون مكان النّقص موجودا في وسط الفعل، وكما ذُكِر آنفا أنّ هذا الوزن مبنيّ على مشاعر نتيجة لما سبقها من أمور أدّت إليها، فلا بدّ أنّ الكاتب عانى معاناة في الصّميم آلت به إلى ما وصل إليه (ما سيُكتشف من خلال قراءة النّصّ). نقطة أخرى لا بدّ من لفت النّظر إليها أنّ المصدر (انهيار) لم يكن معرّفا، ترى أيّ انهيار يقصده الكاتب؟ وأخيرا إذا وقفنا على أحرف الجذر (ه.و.ر)، ففاء الجذر هاء، وكما هو معروف أنّ الهاء هي من أضعف حروف الأبجديّة ومن صفاته الهمس والرّخاوة، والواو حرف مدّ والرّاء تدلّ على الاستمراريّة أيضا بلفظها، وكما هو معروف لكي يصل الإنسان إلى درجة الانهيار لا بدّ له من أن يكون قدّ مرّ في العديد من الأمور والتّخبّطات والّتي كانت نتيجتها هذا الانهيار. ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن الكاتب قد أحسن الاختيار من حيث الشّعور والحسّ والمعنى ليعبّر عمّا اختلجه من شعور. أضف إلى ذلك لقد قام الكاتب بإبقاء العنوان نكرة غير معرّف، وهنا قد تكمن الإشارة إلى أنّ "انهيار" هو عبارة عن مجموعة من انهيارات وتخبّطات صغيرة أدّت إلى انهيار كبير، لو فرضنا أنّه يقصد انهيارا واحدا ووحيدا كان من المفروض أن يكون العنوان معرّفا (الانهيار). تجدر الإشارة إلى أنّ كلّ ما ذُكر أعلاه بمجمله عبارة عن فرضيّات يضعها القارئ أمامه ليبدأ خطواته بين سطور العمل الأدبيّ. مضمون النّصّ: يبدأ النّصّ بحوار بين أستاذ مدرسة يقوم بتسجيل حضور الطّلّاب وغياباتهم في اليوم الدّراسيّ الأوّل في مدرسة جديدة، حيث تبدأ الانهيارات بالنّسبة للكاتب تظهر للعيان. المدرّس هو المربّي والحاضن والمحتوي لطلّابه، وكم بالحريّ إذا تحدّثنا عن اليوم الأوّل في مدرسة جديدة، ليدخل الرّاوي الصّفّ متفاجئا من مربٍّ جديد لا يلقي التّحيّة الصّباحيّة على طلّابه الجدد، لتتوّج قمّة انفعال الرّاوي ودهشته عندما يسمع الكلمات البذيئة تخرج من فم "الأستاذ المربّي" قائلا لطالبه: "العمى في منظرك". إنّ ما وصل إليه الطّالب خلال لحظاته الأولى داخل الصّفّ تجمّع انفعالات زادت الطّين بلّة بعد أن كان تفكيره مشغولا بشيء ما وأراد الاستعانة بالمربّي، ولكنّه تهيّب ذلك. إنّ الرّاوي استطاع الخروج من وطأة انفعالاته عندما تبدّدت مخاوفه من التّغيير الجذريّ الّذي حصل، وأصبح يبحث عن أشياء تسلّيه ليتفادى تراكم الانفعالات، مسلّطا الضّوء على معالم مدينة حيفا هادفا إلى لفت انتباه القارئ إلى هذه المدينة السّاحليّة. ولكن سرعان ما يعود الارتباك مجدّدا في نفسيّة الطّالب ليهدّئ روعه مفضّلا أخذ الحيطة والحذر في إلقاء سؤاله على مسامع المعلّم، فهو يعاني من انهيار بشكل تدريجيّ، وهذا لأنّه لم يفلح بتصوّر العالم، أضف إلى ذلك حيرته الظّاهرة للعيان بسبب ادّعاء يرغب في دحضه. إذ إنّ إحساسه تجاه زميله أكرم بدأ بالتّغيّر رويدا رويدا، بسبب هذا الادّعاء. تجدر الإشارة هنا إلى التّطرّق إلى شخصيّة الرّاوي، الّذي يرى الحقيقة واضحة أمامه، إلّا أنّه يريد التّهرّب منها، وفي المقابل تظهر شخصيّة أكرم الّذي يعي الحقيقة كاملة، إلّا أنّه يؤثِر السّكوت منعا لوقوع صاعقة في نفسيّة صديقه الرّاوي متذرّعا بإمكانيّة كون المعلّم عصبيّا. أمّا الرّاوي فيصرّح بأنّه يشعر بالشّعور نفسه، أمّا في ما وراء السّطور فيمكن أن نشعر بأنّ الرّاوي متخوّف من الإجابة وأثرها عليه. قصّة الإطار تتداخل الأحداث ويبدأ الرّاوي استعادة ذكريات طفولته برفقة أكرم، وهنا يظهر عنصر الاسترجاع الفنّيّ- الفلاش باك، ليتذكّر عالمهما الطّفوليّ الغنيّ بالألعاب والمشاجرات، ولكنّ حيفا بالنّسبة لهما هي الخطّ الأحمر، فكلاهما مقتنع أنّ حيفا هي الأكبر من حيث البلاد، فيقول ولمّا كان من المستحيل أن يكون هناك بلد أكبر من حيفا فقد أهمِلَ البحث في مجالها. يتّضح من هذه الجملة أنّ لحيفا وَقعٌ في نفسيهما، حيث بريانها الأكبر والأعظم شأنا ولا جدال بذلك. تجدر الإشارة إلى أنّ النّموّ والامتداد في القراءة الأولى يتيح سلاسل الألعاب المبتكرة، أمّا في المستوى الثّاني، فالنّموّ هو عبارة عن موتيف داخل القصّة، فقد بدأ الحديث عن نموّ السّلاسل في قوله (لم يكن يعني أبدا توقّفها عن النّموّ)، انتقالا إلى نموّ حيفا في نظرهما( وكنّا نراها تنمو على فترات متفاوتة ولكن باستمرار، (حتّى بيتنا الّذي كنّا نسكنه أكملوا فيه بناء الطّابق الثّاني) ، ثمّ نموّ الارتياح النّفسي لدى الرّاوي والشّعور بالبهجة في قوله (وشعرت بالبهجة تنمو في نفسي مع كلّ اسم على الطّريق إلى الغاية). وصولا إلى النّموّ الحقيقيّ عقليّا عندما يضع أكرم الصّورة الحقيقيّة أمام الرّاوي، أضف إلى ذلك يمكن أخذ النّموّ باتّجاه آخر ألا وهو من شدّة حبّ الرّاوي لحيفا تنمو وتتصاعد، وقد بقيَ الأمر يشغل تفكيره إلى حدّ كبير. في الجهة المقابلة نعود إلى أكرم الّذي وضع الحقيقة نصب عينيه وأراد إثباتها مستعينا بأخيه في الصّفّ الخامس، إنّ النموّ العقلانيّ لدى أكرم جعله يلجأ إلى شخص أكبر منه سنّا ليؤكّد الحقيقة المرّة (كون العالم أكبر من حيفا)، تلك الحقيقة الّتي يخافها الرّاوي، يعرف صحّتها، ولكنّه يرفضها. ولكن سرعان ما يقرّر الرّاوي اللّجوء إلى أخيه ليسأله. إذا تطرّقنا إلى شعور الاثنين - كلاهما كانا خائفين- ولهذا أرجآ ذلك للغد من أجل توجيه السّؤال إلى معلّم من معلّمي المدرسة. يصل الرّاوي وأكرم إلى حصّة الدّين، حيث يبدأ معلّم الدين عن موضوع خلق العالم، ومن الجدير ذكره أنّ كلمة العالم بالنّسبة لكليهما توازي "حيفا"، حتّى إنّ حيفا أكبر. وعندما أردف المعلّم قائلا إنّ الله عزّ وجلّ قد خلق العالم في ستّة أيّام، من الطّبيعيّ أنّ كلا الطّالبين قد غمرتهما السّعادة – فحيفا شهدت نموّا لسنوات طوال- فمن البديهيّ أنّ حيفا هي الأكبر بتفكير الرّاوي- وقد أقنع نفسه بذلك، ولكنّ سمات وجه أكرم جعلته يشعر بالغضب، إلّا أنّه لا زال متشبثا برأيه أنّ وادي النّسناس وحده أكبر من العالم نظرًا إلى كميّة البيوت هناك. وفي هذه اللّحظة يراهما المعلّم ويطلب منهما الحضور إليه، ليطرح على أكرم سؤالا بالنّسبة لموضوع خلق العالم، واليوم السّابع، أكرم لم يعرف الإجابة ولشدّة صعوبة الموقف، يصرّح أكرم بما يُشغل باله وبال صديقه حول موضوع حيفا. ليشعر الرّاوي بغصّة خانقة عندما يعتبر المعلّم كلام الرّاوي هباء، ولكنّه يبقى على أمل بالنّسبة لادّعائه، ليوضّح له المعلّم خلال أمثلة بسيطة أنّ حيفا ما هي إلّا قرية من العالم، موبّخا إيّاه أمام طلّاب صفه، وفي هذه اللّحظة بدأ الرّاوي بكاءه الّذي لم ينقطع بالرّغم أنّ أحدا لم يعرف سبب البكاء الحقيقيّ. إنّ نهاية النّصّ يعتبر بمثابة انهيار وتحطيم معنويّ ونفسيّ بالنّسبة للرّاوي، عندما تنجلي الحقيقة أمامه، أنّ أكثر ما يحبّه وما قد تعلّق به ما هو إلّا شيء صغير داخل عالم واسع. تجدر الإشارة إلى أنّ سبب بكاء الرّاوي هو استصغار قيمة حيفا، قيمة البلد الّتي حضنته، من قِبل بعض الأشخاص كالمعلم، حيث إنّ نموّ حيفا في نفسيّة الرّاوي وكونها العالم بالنّسبة له ليس في المادّيّات والشّوارع والبيوت، إنّما عظمة حيفا هي بكونها حيفا القلب الّتي يراها الرّاوي عالما بأكمله، حيث يبدو الأمر جليّا أنّ الرّاوي ينظر إلى حيفا نظرة الحبّ والعاطفة ونظرة البراءة، ولم يكن بالحسبان أن يتقبّل حقيقة الأمر، أنّ حيفا مجرّد مدينة. النّوع الأدبيّ للنّصّ: يتبع هذا النَصّ إلى النّوع الأدبيّ القصّة القصيرة، حيث لا بدّ من الوقوف على عناصرها، تتمحور فكرة هذا النّصّ حول تنافس الرّاوي وصديقه أكرم في ألعاب السّلاسل والّتي تعتبر حيفا فيها قمّة الهرم وقمّة العظمة، وصولا إلى سلاسل لغويّة تتبع لعلوم مختلفة من الأحياء وغيرها، ولكنّ هذا النّمو لا يتعدى حيفا والّتي هي بمثابة نبض الكاتب، لتنجليَ الحقيقة المرّة "أمام" الرّاوي ممّا يحدث له انهيارا نفسيّا ناهيك عن السّخرية الّتي لعبت دورها في التّاثير على طالب ذنبه الوحيد هو حبّه الجمّ لحيفا.
تقسم الشّخصيّات إلى شخصيّات رئيسة وأخرى ثانويّة: أمّا الشّخصيّات الرّئيسة، قهي الرّواي والمعلّم.
الرّاوي: هو راو مشارك بأحداث النّصّ يرمز إلى فئة النّاس المتعلّقة بوطنها والّتي تراه على أنّه المأمن الأكبر ولا شيء يمكن له أن يضاهيه هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فيرمز الرّاوي إلى فئة الأبرياء الّذين يتقوقعون بفكرة ما ولا يتنازلون عنها، لأنّ هذه الفكرة بنظرهم نابعة من إيمان داخليّ مرتبط بشعور لا يمكن تغييره. من سمات هذا النّوع أنّه ينقل إلينا الأحداث بالوتيرة وبالكميّة الّتي يريدها مائلا إلى جعل القارئ متعاطفا معه كونه قد أخرج كلّ ما يختلج صدره خلال نتاجه الأدبيّ. عانى الرّاوي من صراعين داخل النّصّ، وقد تمثّل صراعه الخارجيّ بنقاط الاختلاف بينه وبين زميله أكرم ممّا حدا به أن يصرخ في بعض الأحيان غير متقبل أي شيء قد يناقض تفكيره أو إحساسه تجاه حيفا.
المعلّم: يرمز المعلّم إلى فئة النّاس الّتي لا تعرف كيفيّة التّعامل مع الآخرين، أو التّقرّب منهم، حيث إنّ المعلّم كمربّ عليه أن يعكس في شخصيّته صورة لشخص من الجدير أن يكون مثالا يُحتذى به، ولكن على أرض الواقع نلاحظ أنّ المعلّم يشتم ويتكلّم كلاما، يضع حاجزا بينه وبين تلاميذه، ويظهر ذلك بشكل جليّ عندما عبّر الرّاوي وصديقه عن تهيّبهما من توجيه سؤال إليه.
وإذا تعمّقنا بشكل أكبر فنرى أنّنا نتكلّم عن معلّم لموضوع الدّين، والدّين هو أساس العلم، لأنّه يعلّم الأخلاق والقيم لبناء مجتمع صالح، أمّا في القصّة فنرى أنّ معلّم الدّين يشتم، في هذه النّقطة يوجّه الرّاوي انتقادا مبطّنا للمؤسّسات التّربويّة وللعاملين فيها، الّذين يروْن أنّ الطّالب هو مجرد كائن عليه أن يكون في مرتبة المتلقّي، ويأخذ بمسلمات الأمور دون أن ينبسّ ببنت شفة، مما يجعله في صراع داخليّ بين مشاعره وتخوّفاته.
الشّخصيّات الثّانويّة: أصدقاء الرّاوي، أخوه.
الزّمان والمكان: إن زمن أحداث القصّة هو أثناء الدّوام الدّراسيّ، أمّا المكان في إحدى مدارس حيفا داخل غرفة الصّفّ.
حُبكة النّصّ: تتحدّث القصّة عن رفض الرّاوي إجراء أي تغيير فكريّ بالنّسبة لحيفا ومركزها داخل قلبه ومعتقده. وقد تأزّم موقف الكاتب هذا وصولا إلى عقدة النّصّ، حيث حاول أكرم إجراء حوار معه آملا أن يقنعه، ولكن عبثا كان الأمر، لتستمرّ الأحداث بالتّصاعد وصولا إلى الحديث عن "خلق" البيوت في وادي النّسناس والجدل حول هذا الأمر، وصولا إلى تأنيب المعلّم للرّاوي، وهنا كانت النّهاية.
نهاية النّصّ: إن نهاية النّصّ كانت عبارة عن تسليط الضّوء على حقيقة لطالما كان الرّاوي خائفا من وجودها، وقد رفض تقبّلها، وكانت بالنّسبة له كالصّاعقة الّتي آلت به إلى البكاء دون انقطاع.
أسلوب الحوار داخل النّصّ: إنّ وظيفة الحوار داخل النّصّ هدفت بداية إلى كسر الرّوتين السّرديّ من جهة، أمّا من الجهة الأخرى فالحوار كان طريقة من الطّرق الّتي انتهجها أكرم علّه يستطيع إقناع الرّاوي بفكرته المغلوطة بالنّسبة لكون حيفا أكبر من العالم. حيث ظهر الحوار الدّاخليّ وكذلك الحوار الخارجيّ، حيث برز من خلال الحوار الدّاخليّ تعبير الكاتب عمّا يختلج نفسه، أمّا الحوار الخارجيّ فقد ساهم في وضع الحقيقة أمام نصب عينيّ الرّاوي.
الأساليب والمحسّنات البديعيّة في النّصّ: