قصّة الرّاية والبراءة - مجيد طوبيا
11- الراية والبراءة أضواء على قصة الراية والبراءة لمجيد طوبيا (اعداد الاستاذ غسان يوسف)
من هو مجيد طوبيا ؟ هو مجيد اسحاق طوبيا ، روائيٌّ وأديبٌ مصريّ . ولد عام 1938. حصل على بكالوريوس الرّياضة والتربية ، كلية المعلمين ، القاهرة ، 1960، دبلوم معهد السيناريو ، عام 1970 ، دبلوم الدراسات العليا ، إخراج سينمائي من معهد السينما بالقاهرة ، عام 1972 . من مؤلفاته: خمس جرائد لم تقرأ ( مجموعة قصصية) ، الوليف ( مجموعة قصصية) ، حنان ( رواية) ، بنك الضحك ( مسرحية).
قصة الراية والبراءة –
مجيد طوبيا اختار الكاتب لقصته القصيرة هذه عنوانا تلميحيا موحيا ( الراية والبراءة) وهذا العنوان يلمح إلى عنصرين أساسيين في القصة هما ” الراية” المرتبطة بمكان محدد ( المدرسة)ولكنها تكتسب دلالات وايحاءات مختلفة وفقا لنفسية البطل وتكشف عن ثراء وعي الشخصية . صحيح أن الراية هنا هي شعار للمدرسة … ولكنها ترمز أيضا إلى الوطن ، و”البراءة ” المرتبطة بجيل الأولاد في مرحلة الدراسة ، وما تحمله فترة الطفولة من ذكريات وأحلام وبراءة وعلاقتها المركبة بثقافة المكان وبالاتساع الكوني ومجالاته وعلاماته الخيالية الإبداعية المحتملة التي ترسم عالمًا جميلا يتحدّى آلية المنفعة أو ميكانيكية الإحساس بالغربة الذاتية. ومن الواضح أن الغرض من هذا العنوان هو الوصف الثيمائي (تحديد الموضوع الأساسي) وهو انحياز الكاتب للبراءة، من خلال احتفائه ببراءة الطفولة ، وتجدد ذكرياتها ، وطاقتها الابداعية في المستقبل وما فيها من مرح وسعادة من خلال اكتشافها الأول لعناصر الواقع وللعالم الداخلي معًا. الراوي هنا طفلٌ ينحاز بطبيعة الحال إلى الحرية ، والإحساس اللاواعي باتساع الذات ، والتوافق الاجتماعي مع أصحابه ومع زميلته نادية، هو راوٍ مشارك يشارك في أحداث القصة ومشرف كلي معلّق ، يتحدث عن راية مدرسية ، وهي ليست كأي راية إنما شعار المدرسة التي يشعر بانتماء قوي إليها من خلال الفريق الرياضي ، الذي يسعى إلى الفوز، بدعم وتشجيع المدرسة ( الناظر) وكلام المدرب الذي ينم عن حنان أبوي ” يجب أن تفوزوا ، لا تخيبوا رجاء زملائكم فيكم الخ “…
الراوي (الذي يبقى بدون اسم ) هو مشرف كلي،شخصية لها دوافع مختلفة عن تلك التي لزملائه . يحب نادية وحبه لها محرك للعب والفوز ، يضاف إلى شعوره تجاه المدرسة والراية والمسؤولين..لقد كان لنادية ولتشجيع المدرب أكبر الأثر عليه…ونرى أيضا علامات تدل على نموِّ وعيه الاجتماعي ونظرته النقدية . فعندما قال فاروق الغرباوي :” إن شهرته( الناظر الجديد) بالوزارة تأديب المدارس المشاغبة … وقد حان دورنا ” ، جاء ردُّ الراوي معبرا عن استغراب ورفض وتحدٍ وثقة بالنفس :” يؤدبنا من أجل ماذا… ليأتِ وسوفَ نرى؟”هولا يرى ثمة حاجة لأي تأديب، فهم يحتفظون بالكأس للسنة الخامسة على التوالي. كما نرى ردّا آخر له على كلام نادية عندما عبرت عن خوفها من رؤية أحد لها برفقته :” تعرف تقاليدالصعيد ” فيجيب :” لا نرتكب فعلا مشينا .. أحبك وأريد أنْ تعرف الدنيا كلها أنني أحبك ومستعدٌّ أنْ أواجه العالم كلَّه بحبك”. إنه شاب متحدٍ لعادات مجتمعه … صادق في حبه ، شجاع وواضح وصريح ، يعرف ما يريد ويريد ما يعرف . يحمل في شخصيته سمات التمرد على مفاهيم يراها رجعية. يتحقق الفوز في المباراة بفضل المعنويات العالية والحافز القوي والمعاملة الأبوية وتشجيع الزملاء والأصدقاء ونظرات نادية … وهنا لابد من المقارنة بين الحالة التي كان عليها أفراد الفريق الفائز في بداية القصة ، والحالة التي آل إليها هؤلاء الشباب الصغار الذين خسروا المباراة في نهاية القصة …
نوردُ هنا بعض الاقتباسات لتوضيح التغيّر الكبير الذي رافق تغيير ناظر المدرسة المحبوب بالناظر الجديد : ” متوسط الطول ضخم البدن منتفخ البطن وبلا عنق وبلا عصا في يده ووجهه مستدير متجهم..” بعد فوزهم في فترة الناظر القديم ( المنقول) بعد خسارتهم في فترة الناظر الجديد “نغسل العرق والغبار…” “… كل لاعب ……مزيلا تحت رذاذ الدش آثار المباراة عن جسده.” ( آثار المباراة هنا هي مشاعر الإحباط والفشل) خلعنا ملابسنا وانهمرت المياه فوق أجادنا منعشة ، وتزاحمنا كل لاعب يريد أن يأخذ نصيبه من الرذاذ البارد ، صائحين صاخبين نشوانين بفرحة الفوز ، نتبادل تعليقات المرح والنكات ، نتحادث عن تلميذات مدرسة البنات .. نتخاطف الصابونة ، نتناولها من فوق الحواجز الفاصلة بين دشٍّ وآخر…” “عندما توجهنا لأخذ الحمام بعد هزيمتنا ، وبعد ضياع الكأس منا لأول مرة منذ سنوات… كانت حركتنا بطيئة صامتة ، وكان الحزن يصبغ نظراتنا ويلجم ألسنتنا…” “…كنا عراة مثل آدم ومع ذلك لم يغلق أحدنا بابه خجلا من الآخرين..” “…خالعا ملابسه بعيدا عن أعين الزملاء مقهورا خجلان …” “كان في انتظارنا عشرات الطلبة السعداء وحامل رايتنا يرفعها خفاقة عالية …شاهدت حبيبتي نادية تتلكأ فانسللت خلفها…” “..ارتدينا ملابسنا دون اهتمام وانصرفنا فرادى… وجدت عن قرب ” نادية” تتلكأ في المسير.. سبقتني إلى الشارع على أن ألحق بها كعادتي ولكني لم أفعل ذلك..”
لم يعد يشعر بانتماء إلى المدرسة أو الراية التي اصبح ارتفاعها مقترنا بظهور الناظر بوجهه المتجهم ..هذه الراية التي لعبوا تحت لوائهاوانتصروا بها والتي كانت رمزهم “والآن صارت رمزه ” . تغيرت نظرته إلى المدرسة التي كان يراها ” كبيرة بمبناها فسيحة بملاعبها .. تقف شامخة مطلة على نيل الصعيد في اتساعه.”.. وإلى الراية التي كان يراها :”ترفرف طوال الوقت ، تستقبل الشمس في شروقها وتودعها يفي غروبها ، هفهافة مع نسيم الشمال “…كان ينتمي إلى المدرة وشعارها إلى أن جاء الناظر الجديد بأسلوبة القاسي ومعاملته الفظة وتعنيفه اللا مبرر وأوامره العسكرية وحركاته الآلية ودكتاتوريه …فتغير كل شيء … وشعور الانتماء الذي رافقه وزملاءه تبدد ، فأتت نهاية القصة طبيعية ومتوقعة وغير مفاجئة لأن الوضع الجديد لا يمكن إلا أن تكون نتيجته هكذا. في الأسلوب : يمكنناأن نقسم القصة إلى ثلاثة أقسام : البداية أوالموقف :من أوّل القصةإلى قوله :” مضى أسبوع آخر…” الحدث :قدوم الناظرالجديد وحالةالخوف والترقب وحب الاستطلاع لدى الطلاب،سياسة الناظروتأثيرها على الطلاب… حتى قوله :” أخيرا استتب نظام الناظر… النهاية :النهاية : منقوله : ” أخيرا استتب …تعودنا على الراية منكسة ..” الفشل والإحباط … الرمزية : كانت الراية ترمز إلى الانتماء والعلوّ والارتقاء والسموَ … كانت تمثل المدرسة بطلابها ومعلميها وناظرها فكان همُّهم أن تبقى عالية خفاقة مزهوة … وصارت ترمز إلى النظام القاسي الذي فرضه الناظر الجديد … فهي ترتفع عند ظهور وجهه .. ولم تعد خفاقة كسابق عهدها ولم يحملها الا عدد قليل من المشجعين معهم في المباراة الأخيرة … أما البراءة فهي براءة الطلبة وحاجتهم إلى الدعم والرعاية والحنان والتوجيه والتحفيز والترغيب التي إذا ما نالوها تفجرت مواهبهم وطاقاتهم وحبهم للمدرسة ونجاحهم الحتمي … المدير هو رمز للسلطة الحاكمة ، فالسلطة التي تحب شعبها وترعاه و … تخلق شعبا جبارا طموحا يحب وطنه وينتمي إليه … أما السلطة الدكتاتورية القاسية المستبدة ، التي تفرض نظاما قمعياولا تستخدم إلا اليد الحديدية في تعاملها مع الشعب فأنها تخلق شعبا يائسا محبطا فاشلا لا يحب وطنه ولا يحقق أية نجاحات … المدرسة : ترمز للوطن .. .الذي يتطور ويسمو ويحقق النجاح والإنجازات تحت سلطة وطنية ترعى شعبها . والذي يفشل ويتراجع ويُحبط ولا يشعر بالانتماء لوطنه ومجتمعه.
الواقعية : يتناول الكاتب مجيد طوبيا في قصته الراية والبراءة واقعا حياتيا يمثل نمطا مميزا للكاتب نفسه. فإلى جانب الفكرة المركزية : التعامل القاسي مع الطلاب ونتائجه السلبية ، وهو صورة للواقع التعليمي الحياتي الشائع في مدارس كثيرة في مصروفي العالم العربي ، ويجعل منه رمزًا للأنظمة العربية المتعسفة القامعة.
نجد الكاتب يتطرق إلى أبعاد أخرى ثانوية كالبعد الاجتماعي المتمثل في العلاقة بين الجنسين ( الراوي ونادية) ورفض المجتمع له ، بينما يراه الكاتب سببا في شحن الراوي بحوافز ومشاعر ايجابية تدفعه إلى النجاح والمواظبة والتقدم.
كما أن الواقعية تظهر في أسماء الشخصيات ، التي تحمل دلالة رمزية أحيانا مثل ” فاروق الغرباوي” الذي يحمل اسمه غرباوي ( من الغراب) خبرا مشؤوما ، ولكنه خبر مؤكد يعتمد على معلومات لا شكَّ فيها مصدرها خاله ” المفتش” الذي أضاف :” ان الناظر المنتظر صارم وعنيف شديد القسوة ..شهرته بالوزارة تأديب المدارس المشاغبة “.
وكذلك تظهر الواقعية في ذكر الأماكن .مثل “نيل الصعيد” الذي يشير إلى مكان وقوع القصة.. ا
سلوب السرد: يظهر فيه الراوي مشاركًا في الحدث ،ويحتل الفعل الماضي الحيز الأعظم من لغة السرد .
أما الحوار فله أهمية خاصة في بداية القصة ، من خلاله يبدأ الحدث الرئيس بخبر يفجره فاروق الغرباوي حول تغيير المدير ( الناظر).ويعتبر مكملا لمضمون السرد متضمّنًا معلومات وتفاصيل تضاف إلى معلومات السرد.