قصّة الرّاية والبراءة - مجيد طوبيا
قصة الراية والبراءة –
تحليل قصّة الرّاية والبراءة مجيد طوبيا:
مجيد إسحق طوبيا (25 مارس 1938 - 7 أبريل 2022) هو روائيّ وأديب مصريّ. ولد في المنيا بمصر. حاصل على درجة بكالوريوس في الرّياضة والتّربية من كليّة المعلّمين في القاهرة عام 1960، ودبلوم معهد السّيناريو عام 1970، ودبلوم الدّراسات العليا بالإخراج السّينمائيّ من معهد السّينما بالقاهرة عام 1972 مجيد حاصل على وسام العلوم والفنون من الطّبقة الأولى عام 1979، وجائزة الدّولة التّشجيعيّة في الآداب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعيّة في العام نفسه. بالإضافة إلى جائزة الدّولة التّقديريّة للآداب عام 2014. له الكثير من الأعمال الأدبيّة ما بين قصص وروايات وكذلك أعمال سنيمائيّة.
عنوان النّصّ: للوهلة الأولى يبدو النّصّ وكأنّه يدمج بين طيّاته كلمتين من حقلين دلالين مختلفين، لا علاقة بينهما، ولكن بعد قراءة النّصّ يتبيّن أنّ العلاقة بين الكلمتين علاقة وطيدة تحمل بين طيّاتها أبعادًا كثيرة، إذ سيأتي الحديث عن عنوان النّصّ وأبعاده في نهاية التّحليل.
تحليل النّصّ:
انطلقت صفّارة الحكم... لم يغلق أحدنا بابه خجلًا من الآخرين. يستهلّ الكاتب نصّه بالفعل انطلق، وهنا لا بدّ من الوقوف على هذا الفعل معنًى ودلالة، وأثره على أحداث النّصّ، إذ إنّ الفعل انطلق يحمل في معناه الدلاليّ السّرعة والحماس، أمّا إذا تتبّعنا ميزانه الصّرفيّ فهو من الوزن انفعل، هذا الوزن الّذي يدلّ في مطاوعته على التّأثّر، أضف إلى كونه لازمًا فقط، ولكن يبقى السّؤال هنا لم آثَر الكاتب على أن تكون الحماسة والانطلاق مقتصرة على الزّمن الماضي، لِمَ لمْ يقل الكاتب تنطلق صفّارة الحكم؟ سؤال آخر قد يتبادر إلى ذهن القارئ هل سنلمس في طيّات القصّة تأثّرًا ما، إذ إنّ مدلول الوزن يوحي بالتّأثّر. وما يلفت الانتباه أكثر أنّ الكاتب يبدأ نّهاية الشّوط، إذ بالرّغم من الحماس الّذي ساد في مدلول الفعل انطلق إلّا أنّ وضعيّة الفريق في نهاية الشّوط تقبع تحت مسمّى الانهزام، الّذي سرعان ما يتحوّل إلى الخطوة الأولى في سبيل النّصر، إذ إنّ ما قلب موازين الأمور هو الحنان الأبويّ الّذي جمعهم فيه المدرّب، متوجّهًا إليهم طالبًا منهم الفوز، كونهم يلعبون في أرضهم. وهنا لا بدّ من لفت الانتباه إلى حضور الأرض ومعناها- إذ سأربط ذلك مع التّحليل فيما بعد. إنّ هذا التّوجّه الحنون قلب موازين الشّوط الثّاني وكانت النّتيجة الانتصار، ليس الانتصار فحسب، إنّما الطّموح إلى الكأس في القسم الأوّل من القصّة نرى هيمنة واضحة لاستعمال ضمير المتكلّمين المسند إلى الأفعال الماضية والمضارعة، مثل: (انتصرنا، اتّجهنا، نتبادل) وغيرها)، إذ يدلّ ذلك على استمرار المفهوم الجماعيّ منذ اللّحظة الأولى لبداية المباراة وحتّى الآن، إذ إنّ قيمة الكلمة الطّيّبة الّتي قالها المدرّب امتدّ تأثيرها وصولًا إلى اللّحظة الآنيّة في قوله: (نتبادل، نتحادث، نتخاطف، نتناول). وهنا لا بدّ من الوقوف على دلالة الوزن تفاعل، إذ إنّ الدّلالة الأولى والأقوى هي المشاركة، ولذا فإن وقفنا على حضور الجماعة في القسم الأوّل من القصّة، فيمكن تلخيصه في نقطتين: الأولى ضمير الجماعة بارز الحضور كما ذُكِرَ آنفًا، واستعمال أفعال من الوزن افتعل كذلك الأمر والّتي تحتاج إلى المشاركة، والمشاركة جماعة. أمر إضافيّ لا بدّ من لفت الانتباه إليه هو هيمنة الحال في قوله: صائحين، صاخبين نشوانين، إذ إنّ تكرار الحال في مدلولها السّعيد بين الحماسة والأحاسيس له ما له من إبراز نفسيّة الرّاوي السّعيدة في بداية أحداث النّصّ، وهنا يأتي السّؤال التّالي هل سعادة الرّاوي المطلقة ستتأثر أم لا، إنّ التّفكير في هذه الأسئلة يصبغ عقل القارئ بما يٌعرف بأسلوب التّشويق. القسم الثّاني: ونحن نجفّف...ليأتِ وسوف نرىفي هذا المقطع من النّصّ يدور حوار بين الرّاوي (لا اسم له) والشّخصية الأولى الّتي تحمل اسمًا "فاروق غرباويّ"، والفاروق لغة هو االّذي يفرّق بين الحقّ والباطل، إنّ الاسم يحمل بين طيّاته نذير نقطة تحوّل، إذ ورد هذا التّحوّل جليًّا عند سماع خبر مجيء ناظر (مدير) جديد مناقض في شخصه للنّاظر السّابق، إذ إنّ السّابق كان رجلًا طيّبًا، أمّا القادم فهو حازم صارم عنيف، فهل هذا الصّارم الحازم سوف يأخذ صفته هذه من أجل أن يفرّق بين الحقّ والباطل أو لا؟ إنّ هذه الصّفات هي تمهيد لحبكة النّصّ، فبعد أن اعتاد الطّلّاب على ناظر جيّد الصّفات، ستنقلب أمورهم جذريًّا، إذ عليهم الآن التّعامل مع إنسان قاسٍ، جاء عنه أنّه يؤدّب مدرسة المشاغبين خلال عام واحد، ولكنّ الرّاوي لا يأبه للحديث المطروح قائلًا يؤدّبنا من أجل ماذا؟ ليأتِ وسوف نرى- إنّ هذه العبارة تحمل بين طيّانها تحدّيًا مباشرًا. إذ إنّ التّحدّي الأوّل برز جليًّا واضحًا في تحدّي الفريق الخصم في شوط المباراة الثّاني، أمّا التّحدّي الثّاني فهو تحدّي الطّلّاب لهذا المدير الجديد. لا بدّ هنا من الإشادة إلى أنّ فكرة التّحدّي ستأخذ ضروبًا عدّة خلال أحداث النّصّ. تجدر الإشارة من خلال الحوار إلى تأثير الأحداث في نفوس الطّلّاب، إذ بعد أن امتلكتهم السّعادة في مستهلّ القصّة، نراهم الآن في وضعيّة ما بين بين، فقسم منهم يأخذ مجيء المدير الجديد على محمل الجدّ وآخرون لا يأبهون لأمره البتّة لأنّهم يعرفون أنّه ما مِن خطأ فعلوه قطّ ليؤدّبهم، فالآن نلاحظ أنّ نفسيّة الطّلّاب في تحدّ أيضًا. في الخارج... بعد أن تعاهدنا على الوفاء وعلى دوام المحبّة مدى العمر. إنّ هذه الفقرة تحمل بيت طيّاتها أبعادًا كثيرة، ومن بينها وضوح سعادة التّلاميذ بالرّغم من وجود ما يخيفهم في خلفيّة الأحداث وهو قدوم النّاظر الجديد (بكلمات أخرى تحدّ شعوريّ)، إذ يمكن لمس التّحدّي الكامن في نفس الرّاوي ونفوس زملائه، فحتّى هذه اللّحظة ينظر الرّاوي إلى مدرسته على أنّها الأفضل بشموخها، والرّاية الأسمى شامخة ترفرف طوال الوقت، إنّ هذه الفقرة تحمل كذلك بعدًا زمنيّا مبطّنًا يصبّ في أمل الرّاوي وتحديه للحفاظ على الأمور كما يحبّ أن يراها، فالمدرسة ورايتها هما الأهمّ بالنّسبة له، ففي كينونة نفسه يعلم أنّ التّغيير آتٍ لا محالة، ولكن بإصراره هو يتحدّى التّغيير قبل حدوثه، إذ يطمح في الحفاظ على الكأس (وهذا بعينه تحدٍّ أيضًا)، يتحدّى العادات والتّقاليد من خلال سيره بجانب حبيبته نادية متحدّيًا العالم بأسره معلنًا حبّه الأبديّ لها. وإذا دمجنا هذا التّحدّي مع الزّمن فنرى أنّ طموح الرّاوي يكمن في أن تبقى الرّاية مرفوعة مرفرفة دائمًا، وقد ظهر ذلك من خلال قوله: تستقبل الشّمس في شروقها وتودّعها في غروبها، إذ إنّ للشّروق والغروب دلالة على الاستمراريّة، كذلك تظهر الاستمراريّة في أمله في الحفاظ على الكأس وتعهّده في وفائه تجاه حبيبته. تجدر الإشارة إلى الجملة الأخيرة من الفقرة: وسرنا وقتًا، ثمّ افترقنا بعد أن تعاهدنا على الوفاء وعلى دوام المحبّة مدى العمر... إنّ لهذه الجملة أبعادًا كثيرة، بداية من استعمال كلمة تفرّقنا، إذ إنّ وبعد قراءة النّصّ نلاحظ أنّ التّفرّق كان حليف الفريق في نهاية النّصّ وحليف الحبيبيْن، إذ إنّ الرّاوي لم يلحق بحبيبته كعادته، وقد تركها وحدها. وإذا ربطنا هذه الجملة بفكرة التّحدّي الكامنة بين طيّات النّصّ، فنجد أنّ العهد بالوفاء والمحبّة ما هو إلّا تحدٍّ بارز للظّروف، إذ إنّ الرّاوي يرمي في جملته هذه إلى أنّه يريد تحدّي كلّ ما قد يؤثّر في هذه العلاقة هادفًا إلى الحفاظ على حبّهما. بعد أسبوع... غير واثقة. تتجلّى حبكة النّصّ في هذه الفقرة، إذ وقف النّاظر القديم مودّعًا طلّابه، راجيًا للجميع التّوفيق والنّجاح، والحفاظ على النّتائج المعهودة ، هذا من جهة أمّا من جهة أخرى فقد ظهر صراع الشّخصيّات ما بين ما طُلبَ منهم وما سيلاقونه مع النّاظر الجديد ذي الأوصاف السّلبيّة الّتي وُصِفَ بها، وصولًا إلى نهجه فصل كلّ مَن لا يروق له، ولكن بالرّغم من هذا الصّراع يحاول الطّلّاب إظهار أنفسهم أكثر قوّة من الوضع القائم، فكان ردّ فعلهم الضّحك بسخرية، ولكنّها جافّة مرعوشة غير واثقة، إذ إنّ هذه الجملة وحدها كفيلة للإشارة إلى الصّراع القائم في نفوسهم هذا من جهة، ولكن من جهة أخرى ما زالت روح التّحدّي ظاهرة للعيان في نفوسهم وقد ظهر ذلك بضحكتهم السّاخرة، وما يلفت الانتباه هنا جملة "شعرتُ بها جافّة مرعوشة غير واثقة، وهنا يأتي السّؤال هل لعدم الوثوق علاقة بفكرة التّحدّي واستمراره؟ وعلى الفور... العتيد. يبدو الرّاوي حزينًا منقبضًا إلى أن التقى نادية، ولكنّ الانقباض لم ينته، فالرّاوي يبحث عن سعادة مؤقّتة ليخرج من انقباضه، وإذ به يرى أطلال الفراعنة، والماعز تتجمّع حول تمثال الفرعون العتيد، وهنا إشارة إلى الظّلم والقوّة من جهة، والتّحدّي من جهة أخرى إذ إنّ للفراعنة باع تاريخيّ في البطش والقسوة، أمّا بالنّسبة لما ما وراء السّطور، فشخصيّة فرعون تتمثّل بشخصيّة النّاظر الجديد الصّارم، فهل سيستطيع الطّلّاب تحدّي الفرعون الجديد القادم إلى صرح مدرستهم؟تجدر الإشارة إلى وجود التّعبير كباش الغجر في نهاية الفقرة، ولهذا التّعبير بعد كبير مؤثّر في الفكرة ما وراء النّصّ، فالكبش حيوان وديع مطيع معتاد على حياة القطيع، هذا في المستوى الأوّل، أمّا المستوى الثّاني فلوجود كبش الغجر أمام فرعون العتيد أي تلميح لوجود الضّعيف أمام القويّ (التّلامذ أمام النّاظر)، وهنا إشارة واضحة إلى تتمّة أحداث القصّة، فوقوف الكاتب على أهميّة الكلأ بالنّسبة للكبش ما هي إلّا دلالة واضحة على نقد لاذع وخصوصًا أنّ هذا الكبش يتقافز حول تمثال الفرعون، إذ إن لفي هذه التّعبير دلالة واضحة على فئة النّاس الرّاضخة للبطش مجرّد أن تملأ معدتها بالطّعام، والمقصود هنا تقبّل الذّلّ والرّضوخ أمامه على أنّه نهج حياة عاديّ، وهذا ما حصل لاحقًا للأساتذة والطّلّاب مع قدوم النّاظر الجديد، فتهديد الفصل أسكت المقاومة، إذ اكتفوْا بالانصياع.فضلًا عمّا ذُكِر أعلاه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلمة الغجر لم تأتِ صدفةـ، إذ إنّ الغجر كان لهم باع تاريخيّ عريق، فقد تعرّضوا إلى الكثير من الاضطهاد والقسوة على مرّ التّاريخ، وهذا يتّصل مباشرة على القسوة الّتي تعرّض لها التّلاميذ وصولًا إلى الانصياع التّامّ والرّضوخ المطلق. "في مصر يعود تاريخ الغجر، كما يروي المؤرخ «سفاتيك» إلى قرون عديدة، وينتشر الغجر في عدة مدن مصرية أغلبها في الصعيد المصري"،[1] وفي قراءة بعض المقالات اتّضح أنّ الغجر لاقَوا ما لاقوه من طغيان على مرّ التّاريخ، إذ يتّصل ذلك مباشرة في هذا العمل الأدبيّ مع ما لاقى التّلاميذ من قسوة الفرعون المستبدّ النّاظر الجديد، وبكون أحداث القصّة في الصّعيد المصريّ. ما يثير الانتباه في هذه الفقرة أنّ لغة الجماعة قد اضمحلّت، إذ نلمس حضور ضمير المتكلّم المفرد في كلمات عدّة، مثل: تملّكني، قلبي، لم يزايلني، لاقيت، هذا من جهة أمّا من جهة أخرى فالعدد قلّ تدريجيًّاـ، إذ إنّ مستهلّ القصّة حمل بين طيّاته تلاميذ مدرسة بأكملها، والآن قلّت الرّوح الجماعيّة ليشير الكاتب إلى وجود شخصين لا أكثر الرّاوي وحبيبته. تجدر الإشارة إلى أنّ ضمير الجماعة سيعاود الحضور، ولكن ليس بالهُويّة الجماعيّة المتعارف عليها في بداية النّصّ. مضى أسبوع...طفولته. تتحدّث الفقرة عن وصول النّاظر الجديد، غير المرئيّ، حبيس المكتب ذي الأوصاف البشعة، إذ راح كلّ طالب يتخيّل النّاظر وفق تخيّله لشخصيّة الغول في قصص الأطفال. تجدر الإشارة أنّه بالرّغم من حضور ضمير الجماعة، ولكنّ الفكرة فردانيّةـ فإذا قارنّا ذلك مع الهويّة الجماعيّة في بداية النّصّ حول الفوز مهما كلّف الأمر من ثمن، نجد هنا أنّ النّظرة الجماعيّة إلى المدير على أنّه غول أصبحت نظرة فرديّة خاصّة لكلّ طالب وآخر، فكلّ منهم يتخيّله كيفما يحلو له. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الضّبابيّة الموجودة حول شخص المدير، بوجوده في المدرسة أو عدمه، بأوصافه، وبالتّخيّل الذّاتيّ لكلّ طالب وآخر، ما هي إلّا إشارة واضحة إلى أحداث القصّة الآتية، إذ سنلمس فيما بعد أحداثًا ضبابيّة داخل النّصّ مع بداية... وكيف سيفعل بنا ذلك. تتصاعد وتيرة الأحداث ليحد الطّلّاب أنفسهم أمام مدرسة موصدة أبوابها، دون سابق إنذار، أمر لم يعتادوا عليه فيما قبل وعندها يقرّرون في اليوم التّالي التّوجّه إلى المدرسة باكرًا، أملًا برؤية النّاظر الجديد، أو بسبب خوفهم من صيته، أمّا الرّاوي فيظهر مشغول البال بالنّسبة لأسباب التأديب الّتي سيتّبعها النّاظر الجديد، وكيف سيكون ذلك؟ تجدر الإشارة إلى كون الصّراع الّذي يعيشه الرّاوي جليًّا بارزًا، فمن خلال الصّراع الكامن في شخص الرّاوي يشوّقنا الكاتب إلى معرفة سبب إغلاق بوابة المدرسة، لمَ كان الإغلاق دون سابق إنذار، الخطوة التّالية الّتي سينتهجها الطّلّاب، هل سيستطيع النّاظر تأديبهم؟ ولكن ما يلفت الانتباه هنا هو بدء الرّاوي بالانزواء وحده، مبتعدًا عن المجموعة، فبالرّغم من حضوره برفقة المجموعة، إلّا أنّ الرّوح الجماعيّة آخذة بالتّلاشي شيئًا فشيئًا، فقد أصبح الطّلّاب في مرحلة التّفكير الذّاتيّة الخاصّة، وهذا الأمر يتّصل مباشرة مع فشل المقاومة، فلو تخيّلنا أنّ الرّوح الجماعيّة مترابطة فكريًّا واجتماعيًّا لكان من المفروض أن ينجح التّمرّد، ولذلك لا بدّ من الإشارة أنّ الاتّحاد قوّة ليس في العدد فقط، إنّما في الفكر. دقّ النّاقوس... خطّان لكلّ فصل يقف تلاميذه بينهما. في هذه الفقرة يبدأ التّغير ظاهرًا للعيان، عندما فوجئ الطّلّاب بصباح يحمل بين طيّاته أمورًا ضبابيّة غير مألوفة، إذ منع المعلّمون دخول الطّلّاب الفصل مستعملين العصي، طالبين منهم الوقوف في صفوف، إنّ التّغيير الحاصل دون سابق إنذار عدا عن كونه مفاجئًا، سيصحب تداعيات قاسية. وهذا ما سيظهر في الفقرة التّالية. أبدع الكاتب في اختيار مستهلّ الفقرة بقوله دقّ النّاقوس، إذ يحمل هذا التّعبير بين طيّاته اتّجاهيْ تفكير، ففي المستوى الأوّل يدور الحديث عن جرس المدرسة المعتاد قرعه صبيحة كلّ يوم، أمّا في المستوى الثّاني، إنّ تعبير دقّ النّاقوس يدلّ على الخطر الآتي، ويردف قائلًا أغلقت البّوابة الحديديّة، إنّ صلابة الموقف وقساوته ليس فقط من خلال الاحداث، إنّما يمكن لمسه أيضًا في انتقاء الكاتب لكلماته، مثل: دقّ النّاقوس، البوابة الحديديّة، يمنعونا، عصي قصيرة، الوقوف بين خطّين. إضافة إلى ذلك، إنّ رسم الخطوط له ما له من تداعيات حول كبت الحريّة، فالخطوط هي الحدود، إذ إنّ حدود الطّلّاب الآن معروفة، ولا يمكن تعدّيها، وهنا إشارة إلى عدم المقدرة على الوقوف أمام المدير، وعد المقدرة على إرجاع الوضع إلى سابق عهده، إذ انحصر الطّلّاب حتّى نهاية أحداث القصّة ضمن خطوط مستبدّة رسمها شخص مستبدّ. قاومنا في البداية...وبلا عصا في يده ووجه مستدير متهجّم. إنّ المقاومة هي ردّ الفعل المتوقَّع، ولكن اللّافت للانتباه أنّ هذه المقاومة ما أن بدأت قد انتهت فورًا، وساد الصّمت دون أن ينبسّ الطّلّاب ببنت شفة، إنّما على العكس وقفوا منصاعين كفرقة جيش أمام شخص مختلف عمّا تخيّلوه، فهو متوسّط الطّول، ضخم البدن، منتفخ البطن وبلا عنق، وبلا عصا في يده، ووجه مستدير متهجّم. فالنّاظر الجديد تختلف صفاته عمّا خُيّل إليهم في البداية، ولذا فيوجّه الكاتب ضمن هذه الفقرة نقدًا لاذعًا مبطّنًا، فقد كان بالإمكان استمرار التّمرّد، ولكنّ الانصياع كان الأقوى. بالرّغم من أنّ المدير لا يحمل عصًا والهدوء كان رهبة وفضولًا ليس إلّا. فهنا يرمي الكاتب إلى أنّ الواقع أخفّ وطأة وحدّة، وبالرّغم من ذلك آثر الطّلّاب الانصياع التّامّ. تجدر الإشارة إلى أنّ المدير لم يحمل عصًا بيده، أمّا في الفقرة السّابقة، فقد حمل المدرّسون العصي متحدّين تمرّد الطّلّاب، وهنا نقد لاذع مبطّن، إذ إنّه لَمِنَ العادة أن يكون المستبدّ في السّلطة هو الآمر النّاهي، الّذي يَصعُبُ اتّهامه، أمّا المتّهم الفعليّ فهم الموظّفون الّذين يكونون تحت إمرته، وهذا ما يحصل في المجتمعات الاستبداديّة، إذ يأتي المستبدّ ليقسم المجتمع بين مؤيّد ومعارض، فينشغل الطّرفان ببعضهما البعض، أمّا هو فيقف ليشاهد مجريات الأمور.
[1] حيدر جمال، الغجر ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب، المركز الثّقافيّ العربيّ 2008