نبذة عن الخطيب :
هو زياد بن أبيه, كان كاتباً لأبي موسى الأشعري ونبغ في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وفي عهد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب تولى زياد ولاية فارس وكرمان والبصرة، وفي عهد الخليفة الاموي معاوية بن أبي سفيان ولاه البصرة والكوفة وكان ذلك سنة 44 هـ
مناسبة الخطبة
اختار معاوية بن أبي سفيان زيادًا واليًا على البصرة، وكانت معقلاً للخارجين على الخلافة الاموية ولهذا فقد كانت الفتن والثورات على بني أمية تنبع منها. فلما وصل زياد إلى البصرة صعد المنبر وألقى هذه الخطبة
سبب تسميتها بالبتراء
لأنه لم يبدأ بحمد الله والثناء عليه وهو الأسلوب الدارج في استهلال الخطب.
نصّ الخطبة
أمّا بعد: فإنّ الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفجر الموقِد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها: ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حُلماؤكم من الأمور العظام؛ ينبُت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير؛ كأن لم تسمعوا بآيِ الله، ولم تقرؤوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكبير لأهل طاعته، والعذابِ الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الذي لا يزول. أتكونون كمن طَرَفت عينَه الدنيا؟ وسَدّت مَسامعَه الشهوات؟ واختارت الفانية على الباقية؟ ولا تَذكرون أنّكم أحدَثتم في الإسلام الحَدث الذي لم تُسبَقوا به، مِن تركِكم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهار المبصِر، والعَدد غير قليل؟ ألم تكن منكم نُهاة تَمنع الغُواة عن دَلْج الليل، وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة، وباعدتم الدِّين. تعتذرون بغير العُذر، وتُغَطّون على المختلِس. كلّ امرئ منكم يذبّ عن سفيه، صَنيعَ من لا يخاف عقاباً، ولا يرجو مَعاداً. ما أنتم بالحُلماء، ولقد اتّبعتم السفهاء، ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حَرم الإسلام، ثم أطرَقوا وراءكم كُنوساً في مَكانس الرِّيَب. حرام عليّ الطعام والشراب، حتى أسوِّيها بالأرض هدماً وإحراقاً".
"إني رأيت هذا الأمر لا يَصلُح إلاّ بما صلَح به أوّلُه: لين في غير ضعف، وشدّة في غير جَبْرية وعُنف. وإنّي أقسم بالله! لآخذنّ الوليّ بالمَولَى، والمقيمَ بالظاعن، والمقبِلَ بالمدبِر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يَلقى الرجل منكم أخاه فيقول: "أُنجُ سعد! فقد هلك سعيد!"، أو تستقيمَ لي قَناتُكم. إنّ كَذِبة المنبر بَلقاء مشهورة؛ فإذا تعلّقتم عليّ بكِذبة فقد حلّت لكم معصيتي. وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة: فمن غرّق قوماً غرّقناه، ومن حرّق على قوم حرّقناه، ومن نَقب بيتاً نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنّاه حيّاً فيه. فكفُّوا عنّي أيديَكم وألسنتَكم، أكفف يدي وأذاي. لا يَظهر مِن أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم، إلاّ ضربتُ عُنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إِحن، فجعلتُ ذلك دَبَر أذنيّ، وتحت قدَميّ؛ فمن كان منكم مُحسناًَ فليزددْ إحساناً، ومن كان مُسيئاً فليَنزع عن إساءته. إنّي لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السّلّ من بغضي، لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له سِتراً، حتى يُبدي لي صفْحتَه؛ فإذا فعل لم أناظره. فاستأنِفوا أموركم، وأعِينوا عليّ أنفسكم؛ فرُبّ مبتئسٍ بقدومنا سيُسرّ، ومسرور بقدومنا سيَبتئس!".
: "أيّها الناس! إنّا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة - نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفَيء الله الذي خوّلنا ؛ فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببْنا، ولكم علينا العدل فيما وُلِّينا. فاستوجِبوا عدْلنا وفيْئنا بمُناصحتكم لنا. واعلموا أنّي مهما قصّرت، فإنّي لا أقصِّر عن ثلاث: لست محتجِباً عن طالب حاجة منكم، ولو أتاني طارقاً بليل، ولا حابساً رزقاً ولا عطاءً عن إبّانه، ولا مجمِّراً لكم بَعثاً . فادْعوا الله بالصلاح لأئمِّتكم؛ فإنّهم ساستكم المؤدِّبون لكم، وكهْفكم الذي إليه تأوُون، ومتى تَصلُحوا يصلُحوا. ولا تُشربوا قلوبكم بُغضَهم، فيشتدّ لذلك غيظُكم، ويطول له حِرمانكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنّه لو استجيب لكم، لكان شراً لكم. أسأل الله أن يُعين كلاً على كلّ".
"وأيْمُ الله! إنّ لي فيكم لصَرْعَى كثيرة! فلْيحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صَرعاي!".
(شرح المفردات في كتاب بيادر الأدب القديم - المرحلة الثانويّة -الوحدة الأولى في الأدب- ص43-46)
البناء الفني للخطبة:
والبناء الفنى لأى خطبة مهما تنوع موضوعها سواء كانت سياسية أو أدبية أو محفلية أو غيرها يحتوي علي: مقدمة، وموضوع، وخاتمة. ولكن زياد خالف هذا النهج الفنى في بناء خطبته، فالمقدمة كانت تبدأ بحمد الله، والصلاة والسلام علي رسول الله r و"زياد" لم يبدأ بمثل هذه البداية، ولذلك سميت خطبته "البتراء" ولكن لماذا لم يحمد الله، ولم يصل علي رسول الله r في بداية هذه الخطبة؟
هذا الأمر اختلف فيه المؤرخون والنقاد، ولكن حينما نتأمل نص الخطبة نرى أن جزءها الأول يبدأ بالهجوم الشديد علي أهل البصرة، ورميهم بالسفه، والبعد عن آى الله، وعدم قراءة كتابه، وعدم مقاومة الفحشاء والمنكر.
وليس من المناسب أن يذكر الحمد والصلاة علي الرسول في مفتتح كلام فيه هجوم وتقريع، ووصف لقوم ابتعدوا عن المنهج السليم، فالجو مشحون بالغضب والتوتر، ويـوحى بالصدام والصراع، وهو لا يريد أن يطمئن من أمامه، بل يقصد إلي رهبتهم وزرع الخوف في قلوبهم.
ولذلك نظير في القرآن الكريم ولله المثل الأعلي في سورة التوبة أو "براءة " إنها تتحدث عن وعيد الله للمشركين، وغيرهم من المخالفين.
وجاءت أفكاره صورة لمنهجه وسياسته فهو يشتد ويلين، يقسو ويحنو، يبين ما له وما لهم، ما عليه وما عليهم، ثم ينذر مرة أخرى. والخطبة تتسم ألفاظها بالسهولة مع نبرة التحدى، والعبارة محكمة وخاطفة، مناسبة لجو الخطبة الذى يعتمد علي التأثير، والنبرة الخطابية العالية، وقد لجأ"زياد" إلي ظواهر فنية كثيرة تساعد علي قوة التأثير وشحن العواطف، منها: السجع، مثل قوله:
كأن لم تسمعوا بآي الله
ولم تقرؤا كتاب الله
ولم تسمعوا ما أعد الله
من الثواب الكريم لأهل طاعته
والعذاب الأليم لأهل معصيته
في الزمن السرمد الذي لا يزول
ومثل هذا السجع ملائم لجو الخطب، وبخاصة الخطب السياسية التى يسيطر عليها التهديد والوعيد.
وبدافع من شحن الموقف بالتلوين الصوتى والتنويع الأسلوبي نرى "زيادا" يكثر من الطباق بين الألفاظ والمعانى والمواقف، والخطبة كلها تكاد تكون مطابقات بين الألفاظ والعبارات والمعانى.
ومن الوسائل التعبيرية التى لجأ إليها "زياد " في خطبته مراعاة النظير والقياس الفكرى والأسلوبي، يقول: "من غرق قوما غرقناه، ومن حرق قوم حرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه".
ومراعاة النظير في هذه الخطبة تفسر لنا فكر زياد المنطقي القانونى، فالعقوبة مجانسة للجريمة، ومـن يرتكب جرما فعليه إثمه،(وجزاء سيئة سيئة مثلها)، وفي ذلك زجر للعصاة، واطمئنان لعامة الشعب.
ويعد التأكيد من الظاهرة الأسلوبية التي لجأ إليها "زياد" في الخطبة حرصا علي تثبيت موقفه، والأخذ بزمام الأمور، والقضاء علي الفساد، ففي الفقرة الأولي يقول: "فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء " وإن وردت مجردة لأنه يصف واقعهم. وفي بداية الفقرة الثانية يقول "إنى رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله" ويقول متابعا التأكيد بإن والقسم ولام القسم ونون التوكيد "وإنى أقسم بالله لآخذن الولي بالمولي".
وهذه المؤكدات وردت في مقام إقرار ما يشبه الدستور الآن، ودستوره متشدد بعيد عن المألوف، ولذلك شعر أن المعارضة ربما تكون قوية فقطع عليهم الطريق بهذا الأسلوب القوى المحصن بالمؤكدات. ويختم الخطبة بالتأكيد بالقسم وبإن قائلا في تحد ونبرة قاسية :"وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة ".
كما أكثر "زياد" من الجمل الشرطية، ولذلك المنحى الأسلوبي صلة بجو الخطبة وما يجرى قبلها وبعدها، ولها صلة بما يهتم به هذا الحاكم الجديد، وهو يحاول أن يرسى مبدأ الثواب والعقاب، وجاء أسلوب الشرط والجواب تجسيداً فنيا لدستور الحكم الجديد، فــلا ثواب إلا بإحسان ولا عقاب إلا بإساءة، وقد أكثر "زياد" من أسلوب الشرط في القسم الثاني والثالث من الخطبة لأنهما يحددان منهج الحاكم الجديد "واسلوب الشرط هو أنسب صيغة للتحدث في مثل هذه المواقف.
وجمل الشرط تحدد مبادئ "زياد" التى ألزم بها نفسه تحاه أهل البصرة يقول :"فكفوا عنى أيديكم وألسنتكم أكفف يدى وأذاي "
"فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا"
"ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته"
واشتملت الخطبة علي مبادئ الحكم وإصلاح الرعية في ظل منهج إسلامي يقر المساواة وينشد العدالة، ويندد بالفسوق، ويطارد العصاة، ويبتر المفسدين، ويحاسب الراعى قبل الرعية.
وفي الخطبة بعض المبالغات التى تشبه طلقات التهديد التى تخيف ولا تصيب، وترعب ولا تؤذى. وماذا يقول مثله لأقوام ضاع الحـق بينهم، وفشت الرذيلة فيهم، وقد حضر إليهم والفسق كثير فاش ظاهر فيهم؟
وماذا يقول حتى يهددهم ويردعهم عما هم فيه من غى وضلال
إننا لو تأملنا النص سنجد أن العبارات التى يحمل نفسه فيها الأمانة الصادقة، وينوء بعبء المسئولية الكاملة تحتل قدرا كبيرا من الخطبة يكاد يستغرقها كلها، وبخاصة الفقرة الثانية والثالثة.
إن مبادئ زياد بن أبيه التي أقرها في خطبته تتمثل في القوانين الآتية:
• لين في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف.
• الصدق والبعد عن مواقف الكذب.
• العقوبة الصارمة والضرب علي أيدى العصاة.
• عدم الخروج علي الجماعة.
• كف الأيدى واللسان عن إيذاء الحكم.
• الحرص علي المصلحة الجماعية والبعد عن النوازع الفردية.
• السمع والطاعة من الرعية وعدالة الحاكم.
• مناصحة الرعية للحكام.
• عدم إهمال الاحتجاب عن الطالبين في أى وقت.
• عدم إهمال الجانب العسكرى.
• صلاح الرعية مقياس صلاحية الراعي.
الظواهر الأسلوبية في الخطبة ___
بدا الخطيب خطبته بلا مقدمة وإنما اقتحم الموضوع اقتحاما وهو يقرع أهل البصرة ويعنفهم ويصفهم بالجهل والظلالة وقد تميزت هذه الخطبة بالظواهر الأسلوبية التالية :
-1- قصر الجمل في مطلع الخطبة والازدواج وهي سمة عامة فيها تلوين إيقاعي ومقابلة خفية ( دلج الليل وغارة النهار).
2- -الاستفهام التعجبي والإنكاري والتقريري
- من ابرز الخصائص الأسلوبية حيث ترتفع وتيرة الإنفعال في هذه الخطبة حتى تصل ذروتها (ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار ؟!)
3- اللوم والتقريع الواثق للأفعال ونتاجها وعن طريق القسم : . وإنّي أقسم بالله! لآخذنّ الوليّ بالمَولَى
4- سوق الحكمة والأمثال(( انج سعد فقد هلك سعيد) وتمكين الكلام من حديث الرسول ( إني رأيت آخر هذه الأمة لايصلح إلا بما صلح بها أولها)
5- استخدم اسلوب الشرط في معرض التهديد والوعيد وقد جاءت هه الأساليب المتتابعة لتركز وتؤكد مبدأ التهديد ( فمن غرّق قوم غرّقناه)
6- استعمال أساليب التوكيد بكثرة وبعث الأمل في النفوس عن طريق الترغيب والوعد بالمكافأة